تتعرض الجماعات الإصلاحية عموماً والسياسية خصوصاً لاختراقات بغرض إضعاف الانتماء لها وإحداث خلافات فيها والاطلاع على خططها لإفشالها.
وإزاء هذه المعضلة لجأت كثير من الجماعات لطريقة السرية التنظيمية العقيمة، وهي السرية المبنية على النظام الهرمي الذي تعرف فيه الخلية أو الأسرة رئيسها ولا تعرف رئيس رئيسها.
وعدم معرفة قائد القائد ومن فوقه من القادة السريين يخالف الفطرة، فليس من الشرع ولا العقل طاعة من لا يُعرف دينه ولا تعرف عدالته، وليس من المروءة ولا المقبول شرعاً وعقلاً العمل السري الذي يتضمن غدراً أو إفساداً في الأرض.
ولشرح التنظيم السري بمثال؛ نفترض أن لدينا جماعة لها تنظيم سري، وأن عدد أعضاء هذا التنظيم السري ٢٥ عضواً، فإذا قُسم هؤلاء الأعضاء لخمس خلايا؛ يكون عدد أعضاء كل خلية ٥ أعضاء بمن فيهم رئيس الخلية، وبالتالي تكون لدينا خلية سادسة مكونة من رؤساء الخلايا الخمس، ولهذه الخلية السادسة رئيس هو رئيس التنظيم السري.
الخلايا الخمس تمثل المستوى القاعدي للهرم التنظيمي، وتمثل الخلية السادسة المستوى الثاني للهرم، ويمثل رئيس التنظيم السري المستوى الثالث للهرم (قمة الهرم)، ورئيس التنظيم السري هو رئيس أعلى.
فسرية التنظيم في هذا المثال قوامها أن كل خلية تعرف أعضاءها ورئيسها فقط ولا تعرف ضرورةً أعضاء الخلايا الأخرى ولا رئيس رئيسها، وبالتالي لا يعرف رئيس التنظيم السري إلا أعضاء الخلية السادسة التي في المستوى الوسط للهرم التنظيمي.
والجماعات السرية لها وجه علني منظم يتحكم فيه التنظيم السري بطريقة ما، وقد توسعت الأحزاب السياسية والجماعات السرية في السرية التنظيمية حتى لم يعد بالإمكان معرفة أعضائها إلا من خلال نشاطهم الحزبي وإدارتهم العليا المعلنة.
فهذه السرية التنظيمية عقيمة ومضرة، ولكن لابد من سرية الحذر من أثر الاختراق والنفاق، وذلك بإخفاء ما يفسد من خلاله الأعداء، كمواطن الضعف وبعض الخطط، وهذه السرية ليست بسبب أن لجماعة النصح ما يدينها شرعاً أو عرفاً أو بموجب اتفاق وعهد ولو كان مجحفاً.
فلأهمية الحد من الأثر السيء للاختراق؛ فقد اقترحت هذه الورقة آلية بديلة للحيطة والحذر من أثر الاختراق دون تسلط فئة، فحرصت الورقة على توسيع الشورى وتضييقها بحسب مسائلها حتى تشمل كل أعضاء جماعة النصح في بعض المسائل.
والضبط المنهجي والإداري مع الحس الأمني الطبيعي أبلغ من السرية التنظيمية في اتقاء شر الاختراق، بل تزيد هذه السرية خطر الاختراق، انظر؛ آلية الضبط والحس الأمني.
ومع أن اختراق الدخلاء لا يمكن تفاديه مطلقاً إلا أنه يمكن تقليل أضراره، وقد ذكر الله تعالى صفات المنافقين للحذر منهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣۰].
فما من مجتمع بشري إلا ويدخل فيه دخلاء بغرض الإفساد والتفريق والفتنة أو بغرض تحقيق مكاسب شخصية.
قال الله تعالى ذكرُهُ: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾.
فإذا كان هذا عن المنافقين في مجتمع المدينة في عهد الرسالة، فما الذي يمنع أن تُخترق غيره من المجتمعات؟ ولذا فلابد من وجود آلية للحيطة والحذر.
المخفي إثم
الأصل في نهج المنظمات المدنية ومنها جماعة النصح الوضوح وعدم التخفي إلا عند الاضطرار والإكراه.
فلابد من التفريق بين النهج والرؤى من جهة والخطط ومواطن الضعف من جهة أخرى، فلا سرية في النهج في الأصل، والسرية في الخطط بحسبها، ولابد من إخفاء مواطن الضعف عن أعين المنافسين والأعداء، وسبق ذكر بعض محاذير وأضرار السرية التنظيمية.
روى مسلم وغيره عَنِ النَّوّاسِ بْنِ سِمْعانَ الأنْصارِيِّ رضي الله عنه قال: (سَألْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، عَنِ البِرِّ والإثْمِ فَقالَ: البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثْمُ ما حاكَ فِي صَدْرِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النّاسُ) [١].
فنهج السرية التنظيمية بدون اضطرار يدل على أن في الجماعة باطل مخفي، وهو نهج الجماعات السرية.
ويلزم اطلاع كل منسوبي جماعة النصح على نظامها الأساسي لمعرفة التزاماتهم والتزامات الإدارة تجاههم.
والدول لا تتحفظ في عرض أنظمتها الأساسية على الدول والأقوام الآخرين، وذلك لأنه لابد أن يتسرب أساسي الدولة للخارج إذا عرض على عامّة قومها، وعرضه على العامّة لازم لأهمية معرفة الأقوام التزاماتهم والتزامات حكوماتهم.
ومن فوائد معرفة عامة الناس بأساسي جماعة النصح؛ كسب ثقتهم بنهجها، وأنها قائمة على شورى حقيقية مضبوطة، وأنه ليس لديها ما تخفيه من نهجها العام لأنه ليس فيه ما يدينها.
آلية الضبط والحس الأمني
آلية الحيطة والحذر في هذه الأسس الإدارية هي الإدارة المسماة في هذه الورقة بالإدارة الضبطية.
وإذا لم توجد آلية لمنع إفساد الدخلاء، فإنهم قد يتمكنون من الوصول إلى مواقع قيادية عالية في جماعة النصح فيزداد خطرهم لا سيما إن وجد مع ذلك خلل تنظيمي أو إداري.
والآلية المقترحة هي مجالس ضبط شرعية تضبط ترشيح عضوية المجالس الشورية، وذلك بمنع انتخاب بعض من رشح لعضويتها بسبب اشتباه أو عدم توفر شروط الأهلية.
وليس في هذا الضبط هيمنة للمجالس الضبطية على أعضاء الجماعة، لأن مجالس الشورى المُنتخبة من عامة أعضاء الجماعة هي التي تختار المجالس الضبطية بصفة دورية.
وليس في هذا دور لأن مجلس الضبط لا يختار المجلس الشوري، وإنما يمنع منعاً مفسراً ترشيح بعضٍ، وذلك بذكر سبب المنع كالمخالفة العقدية أو المنهجية أو السلوكية أو الفسق أو شبهة اختراق الصفوف.
ولذا فإن هذا الضبط يفيد أيضاً في التحقق من توفر شروط أهل الحل والعقد في أكبر عدد ممكن من المُرشحين لمجالس الشورى، كشرط العدالة، وذلك بنحو خلو الصحيفة الجنائية من جريمة حدية كحد القذف وعدم المجاهرة بالكبائر.
فقد نص العلماء على أن العدالة من شروط أهل الحل والعقد، وذلك لأن الفاسق لا تقبل شهادته؛ ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
تضاف هذه الآلية إلى الحس الأمني الطبيعي لدى الناس، وينبغي إيقاظ هذا الحس الطبيعي بتنبيه من في طبعهم غفلة.
فالإنسان بطبعه لديه حس أمني، ولكنه حسب الهدف الأساسي لكل جماعة بشرية، فالتجمع الطبي مثلاً يعد وجود غير الطبيب في جماعتهم تجسساً أو مضيعة وقت.
ولهذا فسهولة الاختراق حسب نوعه ومميزات الجماعة، فالمنظمات المهنية مثلاً سهلة الاختراق السياسي الحزبي لأنها لم تجتمع مبدئياً على عمل سياسي.
ومما يسهل مثل هذا الاختراق أن المجاملة مهمة لتسيير عملهم الذي اجتمعوا عليه، والمجاملة تقتضي غض الطرف عما لا علاقة له بما تعاقدوا عليه.
وللحس الأمني الطبيعي عند الناس فإن السرية التنظيمية قد تكون أبعد عن الحفاظ على جماعة النصح من الاختراق وتبديل مفاهيمها الأساسية، وذلك لغياب الرقابة القاعدية المبنية على الحس الأمني الطبيعي في السرية التنظيمية، وهذا يسهل على المخترقين خداع القيادات العليا أو تغيير قناعاتهم أو رشوتهم أو تهديدهم.
فجماعة النصح مثلاً تستشعر وجود أي حزبي في صفوفها، وذلك لأن مبدأ عملها السياسة غير الحزبية، فكل أعضائها يشاركون في تصفيتها تلقائياً من أصحاب النهج الحزبي.
فآلية الضبط المنهجية والإدارية مع الحس الأمني أبلغ من التنظيم السري لأن فيها مشاركة جميع أعضاء الجماعة في اتقاء شر الاختراق، إضافة لدور قدامى حكمائها ومختصيها الذين لهم خبرة وقناعة راسخة بمباديء الجماعة وانتماء صادق لها، وهم أعضاء الإدارة الضبطية.
وأما التنظيم السري، فلطبيعته السرية فقد يتمكن المخترقون من خداع بعض القيادات أو إقناعهم بمباديء مخالفة لمباديء الجماعة أو تشكيكهم فيها، وهذا يؤدي إلى تمرير تلك القناعات في أعضاء الجماعة وإلى تشككهم في مبادئها وزعزعة انتصارهم للمباديء الأساسية وبالتالي يضعف انتماؤهم للجماعة.
توسيع الشورى وتضييقها
الشورى توسع وتضيق حسب مسائلها، فقد دلت السنة على أن من المسائل ما لا يستشار فيها إلا خاصة الخاصة، وأن منها ما يستشار فيه الخاصة والعامة.
فالنظام الأساسي لجماعة النصح مثلاً يضعه مختصون، وهذا لا يمنع أن يكون في العامة من له رأي سديد في بعض مسائله.
ويشترك في اختيار أهل الحل والعقد الخاصة والعامة [٢].
وذلك لأن العامي قد يكون أتقى وأورع وأكثر فطنة وقدرة على معرفة الكفؤ الأمين من المتعلم.
المستويات الهرمية المقترحة لمجالس شورى جماعة النصح التالية مبنية على المستويات الهرمية الإدارية الحالية للدولة السودانية، وهي بالترتيب من أدنى إلى أعلى؛ الوحدة، المحلية، الولاية، والمستوى الاتحادي.
من يرشح وينتخب أعضاء المجلس الشوري في أدنى المستويات الهرمية (الوحدات) هم أعضاء الجماعة، ثم يختار كل مجلس شوري أمينه، ويشكل أمناء شوريات الوحدات شوري المحلية، وهكذا بطريقة هرمية.
فيشكل أمناء شوريات المحليات شوري الولاية.
ويشكل أمناء شوريات الولايات والعاصمة الشوري العام.
ولكن لابد من أهل علم وحكمة يضبطون الترشيح.
ولذا اقترحت هذه الورقة أن تكون إمرة مجالس ضبط علمي وشرعي وإداري هي الإمرة الثانية بعد المجالس الشورية، بحيث تكون لها صلاحية منع ترشيح بعض للمجالس الشورية.
والذي يختار ضبطي المستوى الهرمي هو شوري المستوى.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الأربعاء ٢٥ ذوالقعدة ١٤٤٤هـ، ١٤ يونيو ٢٠٢٣م
مصادر وملاحق
[١] صحيح مسلم (٢٥٥٣).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق