المحتويات
النهي يقتضي بطلان ما نهي عنه لخصوصه، لذاته كان أو لعلة أصلية، قاصرة العلة كانت أو متعدية، ولا يقتضي البطلان إذا كان لعلة طارئة لعمومها، ولا ينبغي الخلاف في الكل لنهي عن جزء.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
قيد "لخصوصه" لا يختلف عن قيد من قال؛ "لذاته أو لصفة لازمة له"، ومن قال؛ "لذاته أو لأمر غير خارج أو غير منفك عنه (لمعنىً في المنهي عنه)".
قال ابن تيمية رحمه الله: (والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لا سيما إذا كان من العبادات وكان النهي لمعنىً في المنهي عنه) [١].
وفي التعبير بالصفة اللازمة نظر، فالعيد مثلاً ليس صفة لازمة للصوم.
ولا يتصور نهي لغير معنىً في المنهي عنه، قرره ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى.
والخطأ اللفظي يؤدي إلى خلاف في القاعدة وأخطاء في تطبيقاتها.
وكلمة البطلان أشمل من كلمة الفساد لأنها تشمل المحرّم لغيره، لأن فائدته الحاجية ملغاة بالشرع، ولأن البطلان يعني انعدام الفائدة.
فإذا كانت الفائدة ضرورية فإن فواتها فساد، وذلك لأن المصلحة الضرورية يترتب على فواتها ضرر، وبذا شمل البطلان المحرّم لذاته.
وانعدام مصلحة المحرّم لغيره الحاجية هي باعتبار أنّ المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً.
ليس في بطلان المنهي عنه لذاته خلاف معتبر.
ولا ينبغي الخلاف في أن النهي عن جزء فعلاً كان أو صفة جزء لا يقتضي بطلان الكل ما لم يخل بشرط أو ركن أو يرد نص في إبطاله الكل.
الإشكال في المنهي عنه لصفة للكل وهو مشروع في الأصل.
ولا ينبغي الخلاف في بطلانه إذا كانت الصفة علة أصلية للمنهي عنه، قاصرة كانت أو متعدية، إذ لا فرق بينه وبين المنهي عنه لذاته.
والأرجح صحته مع الإثم إذا كانت الصفة علة طارئة لعمومها.
من أمثلة النهي لذات المنهي عنه؛ النهي عن الشرك، والكفر، وقتل النفس بغير حق، وأكل أموال الناس بالباطل.
مثال النهي لعلة أصلية ولعلها قاصرة؛ صوم يوم العيد.
مثال النهي لعلة أصلية متعدية؛ بيع الذهب بالذهب مع التفاضل أو النسيئة، فهي متعدية لكل الأثمان على الأرجح [٢].
أمثلة للنهي لعلة طارئة لعمومها؛ بيع المُصرّاة، والبيع ساعة صلاة الجمعة.
مما يدل على أن النهي لعلة طارئة لعمومها لا يقتضي البطلان؛ أن النبي ﷺ جعل مشتري المصرّاة بالخيار، فلو كان البيع باطلاً ما جعله بالخيار.
وتصرية الشاة هي حبس اللبن في ضرعها بعدم حلبها أياماً لتبدو حلوباً.
والغش علة طارئة لعمومها.
والعلة الطارئة لعمومها تشمل أفرادها بدون تعدية، فشمولها نصي إذا كانت نصية، وقد يُنهى عنها استقلالاً.
وأما العلة الأصلية ففيها خصوص من جهة أنها لا تتعدى المنهي عنه إلا بعلة جامعة، وعمومها قد يكون اجتهادياً حتى ولو كانت نصية.
قال النبي ﷺ: (لا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر) [٣].
والنهي عن التصرية نهي عن بيع المصرّاة.
النهي عن البيع في المسجد لا يقتضي بطلانه، وذلك إما بسبب أن النهي للكراهة أو لأن العلة طارئة لعمومها تشمل كل انشغال بالدنيا في البيوت التي أذن الله برفعها ليذكر فيها اسمه ويعبد فيها.
والنهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة لا يقتضي بطلانها، لأنه ليس نهي عن الصلاة لعلة، وإنما هو نهي عن فعل فيها لا يخل بركن ولا شرط ولم يرد نص في أنه يبطل الصلاة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: ("ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم"، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: "لينتهُنّ عن ذلك أو لتُخطفنّ أبصارهم") [٤].
ومما يدل على أن بطلان الكل بنهي عن جزء فعلاً كان أو صفة بحسب الجزء؛ الإجماع على أن الحج لا يبطل بغير الجماع من محظورات الإحرام.
وقد قال الله تعالى: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾.
قال ابن المنذر رحمه الله في محظورات الإحرام: (وأجمعوا على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء من ذلك في حال الإحرام إلا الجماع) [٥].
والمخيط صفة لباس، والطيب فعل، وهما من محظورات الإحرام التي لا تبطل الحج بالإجماع.
والنهي عن البيع ساعة صلاة الجمعة لا يقتضي بطلانه، لأن هذه الساعة علة طارئة لعمومها تشمل كل ما يشغل عن صلاة الجمعة.
والنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة لا يقتضي بطلانها، لأن العلة طارئة لعمومها تشمل كل ما طرأت عليه، وهي الغصب.
والصلاة في ثوب حرير لا يبطلها وإن سترت به العورة ما لم يخل بسترها، لأن كون الثوب من حرير علة طارئة لعمومها تشمل كل عمل طرأت عليه وأصله مشروع.
الاختصار (وضع اليد على الخاصرة) في الصلاة لا يبطلها، لأن النهي عن فعل في الصلاة لا يخل بركن ولا شرط، وليس عن الصلاة لعلة، وعلله طارئة لعمومها، وهي أنه تشبه باليهود وأنه راحة أهل النار.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (نهى النبي ﷺ أن يصلي الرجل مختصِراً) [٦].
ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها (كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته وتقول إن اليهود تفعله) [٧].
وفي حديث في سنده مقال: (الاختصار راحة أهل النّار) [٨].
وتلك أمثلة توضيحية للقاعدة الأصولية.
التعبير بالعلة الطارئة لعمومها يوافق في المعنى تعبير من عبر من العلماء بالنهي لصفة غير لازمة ولأمر خارج أو منفك (لمعنىً في غير المنهي عنه)، ولكن يرد على هذه التعبيرات ما أُشير إليه سابقاً في أضدادها.
وسبق أن الخطأ اللفظي يؤدي إلى خلاف في القاعدة وأخطاء في تطبيقاتها.
فيرد التفريق بين متماثلين على من يجمع بين قولين؛ صحة المنهي عنه لعلة طارئة (لأمر خارج عن المنهي عنه)، والتفريق في لبس ثوب الحرير في الصلاة بين ستر العورة بدون إخلال بسترها وستر غيرها.
ولا يرد التفريق بين متماثلين على من يفرق هذا التفريق ويقول ببطلان المنهي عنه لعلة طارئة، وذلك لأن بطلان الجزء بطلان للكل إذا كان الجزء شرطاً أو ركناً.
وقد يكون المعتمد ما قرره ابن تيمية في الفتاوى في قول (لمعنىً في المنهي عنه)، لأنه ألف "شرح عمدة الفقه" في مقتبل عمره.
قال في الفتاوى: (فكل ما نهى الله عنه لا بد أن يشتمل على معنىً فيه يوجب النهي، ولا يجوز أن ينهى عن شيء لا لمعنىً فيه أصلاً بل لمعنى أجنبي عنه؛ فإن هذا من جنس عقوبة الإنسان بذنب غيره والشرع منزه عنه.
لكن في الأشياء ما ينهى عنه لسد الذريعة، فهو مجرد عن الذريعة لم يكن فيه مفسدة، كالنهي عن الصلاة في أوقات النهي قبل طلوع الشمس وغروبها ونحو ذلك، وذلك لأن هذا الفعل اشتمل على مفسدة؛ لإفضائه إلى التشبه بالمشركين، وهذا معنىً فيه) [٩].
ولم ينازع ابن تيمية في أن معنى النهي قد يكون في الفعل وقد يكون في الوصف (وصف الفعل أو زمانه أو مكانه أو فاعله أو فاعليه)، ولكنه بين أن هذه الفوارق غير مؤثرة بأمثلة متفق عليها.
فمثل في صفحة تالية ببطلان الصلاة أيام الحيض (صفة في الفاعل)، والصلاة إلى غير القبلة (صفة في الفعل)، ورمي الجمرات في غير أيام منى أو المرمى (صفة في الزمان والمكان).
واعتراضه هو على نفي علاقة المعنى الخارجي بمعنىً في المنهي عنه، وليس على مجرد القول بالنهي لمعنىً خارج عن المنهي عنه.
فقد قال في تلك الصفحات: (فيقال: وغير ذلك من المحرّمات كذلك إنما نهي عنها لإفضائها إلى فساد خارج عنها. فالجمع بين الأختين نهي عنه لإفضائه إلى قطيعة الرحم والقطيعة أمر خارج عن النكاح) [١٠].
وبالتأمل فيما سبق نلحظ أن الخطأ في إناطة البطلان بمعانٍ متعلقة، لعمومها.
فالأحكام لا تناط بكل معنىً، وإنما تناط بأوصاف ظاهرة منضبطة مناسبة (علل)، وهي ليست خارجة عن المنهي عنه.
والحكم الأصلي غالباً ما لا يكون منوطاً بالمصالح والمفاسد (الحكم والمقاصد)، لأنها أوصاف لا تستوفي في الغالب شروط العلل، وغالبها -إن لم يكن كلها- خارج عن المنهي عنه والمأمور به.
وقد جعل الله تعالى جواز الفطر في نهار رمضان منوطاً بالمرض والسفر، وهما علتان، ولم يجعله منوطاً بالمشقة، وهي حكمة ومقصد.
فلم يقل الله تعالى؛ من وجد مشقة فعدة من أيام أخر، وإنما قال: ﴿ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر﴾، ثم قال بعدها؛ ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾.
والمشقة خارجة عن الفعل (الصوم) والوصفين (المرض والسفر)، ولكن الوصفين مظنة المشقة، وهذا معنى القول في العلل أنها مناسبة، يعني متضمنة للحكم والمقاصد.
ولعموم كلمة المعنى مثل لها ابن تيمية بعلل، ومقاصد، وأفعال.
ومما قال قبل ما سبق: (فمنهم من يقول: النهي هنا لمعنىً في غير المنهي عنه.
وكذلك يقولون في الصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب والطلاق في الحيض والبيع وقت النداء ونحو ذلك.
وهذا الذي قالوه لا حقيقة له؛ فإنه إن عني بذلك أن نفس البيع اشتمل على تعطيل الصلاة ونفس الصلاة اشتملت على الظلم والفخر والخيلاء ونحو ذلك مما نهي عنه كما اشتملت الصلاة في الثوب النجس على ملابسة الرجس الخبيث: فهذا غير صحيح.
وإن أرادوا بذلك أن ذلك المعنى لا يختص بالصلاة، بل هو مشترك بين الصلاة وغيرها، فهذا صحيح.
فإن البيع وقت النداء لم ينه عنه إلا لكونه شاغلاً عن الصلاة، وهذا موجود في غير البيع لا يختص بالبيع.
لكن هذا الفرق لا يجيء في طلاق الحائض، فإنه ليس هناك معنىً مشترك.
وهم يقولون إنما نهي عنه لإطالة العدة، وذلك خارج عن الطلاق، فيقال: وغير ذلك من المحرّمات كذلك إنما نهي عنها لإفضائه إلى فساد خارج عنها) [١٠].
وقد أثبت ابن تيمية فيما سبق وجود معنىً مشترك، ونفى وجوده في طلاق الحائض.
فطلاق الحائض محرّم لخصوصه، والمعنى الذي ذكروه ليس مشتركاً كما قال.
وأمر ابن عمر رضي الله عنهما أن يراجع زوجته دليل على بطلان طلاقه، وأما عده طلقة - على القول به - فهو عقوبة، وليس لصحة طلاقه.
ولعل هذا مما استنبط منه الصحابة رضي الله عنهم جواز عد طلاق الثلاث في مرة واحدة كطلاق ثلاث مرات زجراً، فهو طلاق باطل على غير السنة، وكان يعد واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر الصديق وسنتين من خلافة عمر، رضي الله عنهما.
والمعنى المشترك السابق يختلف عن المعنى المشترك في المثال التالي الذي قال عنه ابن تيمية أنه أعظم.
وذلك في قوله: (فالنهي لمعنىً مشترك أعظم؛ ولهذا لو قتل المحرِم صيداً مملوكاً وجب عليه الجزاء لحق الله ووجب عليه البدل لحق المالك. ولو زنى لأفسد إحرامه كما يفسد بنكاح امرأته ويستحق حد الزنا مع ذلك) [١١].
فالمعنى المشترك في هذين المثالين مشترك بين عبادة ومعاملة كما نص على ذلك ابن تيمية رحمه الله.
ولا علاقة لهذين المثالين بالعلة الطارئة لعمومها، فالزنا والصيد فعلان وليسا وصفين للحج، والعلل أوصاف، ويشترط للعلل الاجتهادية أن تكون كالنصية؛ منضبطة، وظاهرة، ومناسبة.
والزنا مبطل للحج لأنه جماع محرّم، وقتل الصيد المملوك ليس مبطلاً له وإن كان أعظم إثماً من مجرد الصيد.
ولا يسلم بتعميم القول بأن النهي لمعنىً مشترك أعظم.
فثمة فرق بين هذين المثالين ومثال البيع ساعة صلاة الجمعة، فالزنا وصيد المملوك محرّمان في الأصل، والبيع مشروع في الأصل.
وصيد المحرِم محرّم لعلتين، هما؛ كونه محرِماً، وكون الصيد مملوكاً، وتحريم زنا المحرِم كذلك لعلتين؛ كونه محرِماً ممنوعاً من الجماع المباح، وكون الزنا محرّماً.
ولذا لا يسلم بقوله: (وكذلك البيع بعد النداء إذا كان قد نهي عنه وغيره يشغل عن الجمعة؛ كان ذلك أوكد في النهي، وكل ما شغل عنها فهو شر وفساد لا خير فيه. والملك الحاصل بذلك كالملك الذي لم يحصل إلا بمعصية الله وغضبه ومخالفته كالذي لا يحصل إلا بغير ذلك من المعاصي؛ مثل الكفر والسحر والكهانة والفاحشة وقد قال النبي ﷺ (حلوان الكاهن خبيث ومهر البغي خبيث)) [١٢].
وما شغل عن الصلاة ليس فساداً لخصوصه، خلافاً لأخذ العوض على الكفر والسحر والكهانة والفاحشة، وهذا فرق معتبر.
وأما حديث (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل) إن صح فهو في بطلان الأجر وليس في عدم الإجزاء على قول الجمهور.
الأصل في النهي اقتضاء البطلان ما لم يدل دليل على خلافه.
وقد دل الدليل على إمضاء بيع المصرّاة وتلقي الركبان حال عفو المظلوم عن حقه.
والتعليل بالعلة الطارئة لعمومها متعين.
وأما التعليل بكونه حق آدمي يمكن استدراكه، فغير جامع إذا صح أنه مانع.
ولحق الآدمي مناسبة ظاهرة، وهي عفوه عن حقه أو تعويضه، يدل عليه تخيير النبي ﷺ مشتري المصرّاة.
ولذا فعفو المخلوق أو تعويضه شرط لصحة المنهي عنه لحقه، يضاف لتعليلها بالعلة الطارئة لعمومها.
يستثني ابن تيمية في الفتاوى من اقتضاء النهي الفساد حالة فقط، وهي حالة عفو صاحب الحق عن حقه عندما يكون النهي لحقه، خلافاً لما في "شرح عمدة الفقه" الذي ألفه في مقتبل عمره.
ويرد على هذا التقعيد القول بصحة صلاة من صلى في الدار المغصوبة مع الإثم بدون اشتراط عفو صاحبها أو تعويضه.
ولا يرد هذا على شيخ الإسلام، فيبدو أنه رجع عن قول قديم إلى القول باشتراط التحلل من الظلم لصحة الصلاة في الدار المغصوبة.
فقد قال في الفتاوى: (وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة والذبح بآلة مغصوبة، وطبخ الطعام بحطب مغصوب، وتسخين الماء بوقود مغصوب؛ كل هذا إنما حرم لما فيه من ظلم الإنسان. وذلك يزول بإعطاء المظلوم حقه، فإذا أعطاه ما أخذه من منفعة ماله أو من أعيان ماله: فأعطاه كري الدار وثمن الحطب وتاب هو إلى الله تعالى من فعل ما نهاه عنه فقد برئ من حق الله وحق العبد وصارت صلاته كالصلاة في مكان مباح) [١٣].
ويرد عليه التفريق بين متماثلين في براءة الذمة من حق الله بالتوبة، فلم لا يُلزم من تاب من الصلاة في الدار المغصوبة بإعادتها؟ فقد قال في البيع ساعة صلاة الجمعة بلزوم التصدق بربح البيع إذا تعذر الرد.
وذلك في قوله: (وإذا حصل البيع في هذا الوقت وتعذر الرد فله نظير ثمنه الذي أداه ويتصدق بالربح والبائع له نظير سلعته ويتصدق بالربح إن كان قد ربح، ولو تراضيا بذلك بعد الصلاة لم ينفع؛ فإن النهي هنا لحق الله تعالى فهو كما لو تراضيا بمهر البغي وهناك يتصدق به على أصح القولين؛ لا يعطى للزاني) [١٤].
والبيع ساعة صلاة الجمعة محرم لعلة طارئة لعمومها، ففارق مهر البغي لأن الزنا محرم لخصوصه.
والقول باشتراط التصدق بربح البيع ساعة صلاة الجمعة للتوبة لا يمنع القول بإمضاء البيع بدون تعذر رده.
وذلك لأن البيع ساعة صلاة الجمعة وقع صحيحاً بالتراضي لولا تلك الساعة الطارئة، فهو مثل قوله السابق فيمن تاب من الصلاة في الدار المغصوبة: (وصارت صلاته كالصلاة في مكان مباح).
وما قرره في التوبة لله من حق الآدمي يتفق مع قوله: (ونقول أيضاً لا فرق بين ما حرّم لحق الله تعالى أو لحق عباده، إذ الأدلة لا تفرق، ونقول التفريق بين ما حرّم الله لنفسه أو لغيره غير مسلم، وبتقدير تسليمه فالنهي هنا لمعنى في المعقود عليه، وهو تعلق حق الأول بالعين المعقود عليها) [١٥].
ولكن هذا قد يُضعف قوله في بيع النجش ونحوه: (هذا النوع لم يكن النهي فيه لحق الله، كنكاح المحرمات والمطلقة ثلاثاً وبيع الربا؛ بل لحق الإنسان) [١٦].
وذلك لأنه لا فرق بين حق الخالق وحق المخلوق من جهة أن في كل حق آدمي حق لله مع ثبوت الفرق من جهاتٍ أخرى.
ويلزم طرداً من القول بأن علة جواز إمضاء المنهي عنه كونه حق آدمي بشرط عفوه عنه أو تعويضه؛ جواز إمضاء الميسر بالتراضي مع الإثم، فإن قيل فيه ضرر عام، ففي بيع المصرّاة كذلك ضرر عام.
فلزم أن تكون علة صحة المنهي عنه هي كون علة النهي طارئة لعمومها، وعفو الآدمي أو تعويضه شرط حال النهي لحقه.
ومناسبة العلة الطارئة لعمومها لصحة المنهي عنه مع الإثم واضحة، وهي أن النهي عما طرأت عليه لم يرد لخصوصه.
حاصل هذا المبحث لا يتعارض مع أصل ما قرره ابن تيمية في رده على المتكلمين وبيان فهم السلف لاقتضاء النهي الفساد.
فحاصله هو أن الأصل في النهي اقتضاء البطلان ما لم يدل دليل على خلافه، وهو المنهي عنه لعلة طارئة لعمومها.
فيبقى كل منهي عنه لخصوصه على الأصل، لذاته كان أو لعلة أصلية، قاصرة كانت العلة أو متعدية.
وكذا يتفق مع أن الأصل في النهي اقتضاء البطلان؛ القول في أن حكم الكل لنهي عن جزء بحسبه، وذلك لأن النهي ليس عن الكل، ولأن النهي عن الجزء لخصوصه يقتضي بطلان الجزء.
ولمعاصر تفريق بين الدليل الواحد والمركب، وفيه قرب من القول بالعلة الطارئة لعمومها، فقد يُنهى عنها استقلالاً.
لعله بناه على ظن بعدم رجوع ابن تيمية عن مطلق القول بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة بدون اشتراط التحلل من الظلم.
ولكن يبدو أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يستثني من قاعدة اقتضاء النهي الفساد بعلة لا تتم إلا بشرط في الحال، والعلة هي أن يكون النهي لحق آدمي، والشرط هو عفو الآدمي عن حقه، فيبدو أن كلامه في "شرح عمدة الفقه" قديم تراجع عنه.
وبالنظر في مناقشات العلماء لهذه المسألة نجد أن من المهم التنبيه إلى أن احكام الصحة والبطلان لا تختلف عن الأحكام التكليفية من جهة أن علل الأحكام غالباً ما تكون أوصافاً أخرى غير الحكم والمقاصد.
ولكن العلل لابد أن تكون مناسبة تشتمل على الحكم والمقاصد.
فإذا كان المقصد (الحكمة) وصفاً ظاهراً منضبطاً مناسباً فقد يصلح أن يكون علة للحكم.
وسبق التمثيل بدفع المشقة (مقصد) والسفر والمرض (علتان) لحكم جواز الفطر في نهار رمضان.
والحكم والمقاصد متعلقة بالمصالح (جلباً للمعدوم أو حفظاً للموجود) والمفاسد (دفعاً للمتوقع أو رفعاً للموجود).
فغالباً ما لا يناط الحكم بالمصالح والمفاسد إلا في أحد أمرين؛
١. المباح في الأصل، كالسفر يحرم للمعصية ويجب للحج الواجب، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
٢. حكم استثنائي خلاف الأصل، كالمنهي عنه في الأصل يستثنى للموزانات بسبب تعارض أو تزاحم المأمورات والمنهيات، أو المأمور به في الأصل فيستثنى للموازنات أو لاعتبار الشروط والموانع.
وبالمثال يتضح المقال؛ الكلام عن مصالح ومفاسد الخروج على الحاكم إنما يصح حال كفره أو تركه رعاية أصل الدين؛ الشهادتين والصلاة، لمشروعية الخروج في هذه الحال.
فعلة تحريم الخروج هي كون السلطان مسلماً حارساً لأصل الدين؛ الشهادتين والصلاة [١٧].
وأما الحِكمة فهي رجحان المفسدة، وهو ملازم غالباً للخروج، والنادر لا يؤثر في الحكم العام.
فلا يقال الخروج منوط بالمصالح والمفاسد، ولكنها تعتبر في الأحكام الاستثنائية لعزل رئيس البلاد برؤوس أهل الشوكة (ضباط الجيش) الذين هم من أهل الحل والعقد.
فالاضطرار (من أحكام الموازنات بين المصالح والمفاسد) لا يتصوَّر إلا في حال تسبّب استمرار الحاكم في ضعف شديد يُخشى معه تبدد دعائم الإسلام وذهاب البيضة أو خوف انزلاق البلاد في حروب وفتن.
فهذه الضرورة تدفع بالعزل وليس بالثورات، لأن الثورات تثير الفتن وتزيد الضعف وتُعجّل بتبدد دعائم الإسلام وذهاب البيضة، وتُغري الكفار بالتدخل في بلاد المسلمين.
نص بعض العلماء على كلمة الخصوص في اقتضاء النهي الفساد منهم ابن تيمية في "شرح عمدة الفقه".
فقد قال في بطلان الصلاة في المقبرة والمساجد التي بها قبور وأعطان الإبل والحمام: (ولذلك لا يصح أن يقال هنا بالتحريم مع الصحة، وإن قلنا به في الدار المغصوبة، لأنَّ النهي هناك ليس عن خصوص الصلاة، وقد يقال: إنه ليس لمعنىً في المنهيِّ عنه) [١٨].
وسبق أن ابن تيمية رحمه الله قرر في الفتاوى أنه لا يتصور نهي لغير معنىً في المنهي عنه، فلم يبق غير النهي للخصوص.
وعلل النهي عن الصلاة في مواضع معينة عللٌ أصلية، ففيها خصوص وإن قيل بتعديتها لعبادات أخرى في تلك المواضع.
وسبق أنّ في العلة الأصلية خصوص من جهة أنها لا تتعدى المنهي عنه إلا بعلة جامعة، وأن عمومها قد يكون اجتهادياً حتى ولو كانت نصية.
لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن بشرط عدم إحداث لبس في الفهم، فلا يجوز قول الزنا مكروه مع كونه مكروه لغةً بمعنى مبغوض.
هذا إذا سلم اللفظ من خطأ، وأما إذا كان في استعمال اللفظ خطأ، فهو بلا شك يؤدي إلى لبس في الفهم وخلاف لفظي وحقيقي.
فسبب كتابة هذا المبحث هو أن الألفاظ المنتقدة هي سبب أساسي من أسباب الخلاف في القاعدة والأخطاء في تطبيقاتها، وهي سبب ما طرأ على المسألة من تعقيد.
وخلاصة الحكم هي أن النهي لخصوصه يقتضي البطلان، ولا يستثنى من القاعدة إلا إذا كان النهي للكراهة وليس للتحريم.
ولا يدخل في القاعدة بهذا النص ما نُهي عنه لعلة طارئة لعمومها، لأن النهي لهذه العلة ليس نهياً لخصوص المنهي عنه.
ولا فرق في هذه القاعدة بين نهي عن جزء ونهي عن كل، فالنهي عن جزء لخصوصه يقتضي بطلان الجزء، والنهي عن كل لخصوصه يقتضي بطلان الكل.
والنهي عن جزء لا يقتضي بطلان الكل إلا إذا أخل بركن أو شرط أو دل دليل على إبطاله الكل.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأربعاء ٢٢ ربيع الأول ١٤٤٦هـ، ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٤م.
[١] شرح عمدة الفقه (ج١/ص٤٠٤) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[٢] علة الثمنية.
[٣] أخرجه البخاري (٢١٤٨).
[٤] أخرجه البخاري (٧٥٠)، ومسلم (٤٢٩).
[٥] الإشراف على مذاهب العلماء (ج٣/ص٢٠٠) - ابن المنذر (ت ٣١٩).
[٦] أخرجه البخاري (١٢٢٠)، ومسلم (٥٤٥).
[٧] أخرجه البخاري (٣٤٥٨).
[٨] أخرجه ابن خزيمة (٩٠٩)، وابن حبان (٢٢٨٦)، والطبراني في الأوسط (٦٩٢٥)، الألباني؛ إسناده ظاهره الصحة، أصل صفة الصلاة (١/٢٢٧).
[٩] مجموع الفتاوى (ج٢٩/ص٢٨٨) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[١٠] المصدر السابق ص٢٨٧-٢٨٨.
[١١] المصدر السابق ص٢٩٠.
[١٢] المصدر السابق ص٢٩١.
[١٣] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (ج٦/ص٣١١).
[١٤] مجموع الفتاوى (ج٢٩/ص٢٨٦) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[١٥] المصدر السابق ص٢٩١-٢٩٢.
[١٦] مجموع الفتاوى (ج٢٩/ص٢٨٥).
[١٧] شرعية السلاطين برعاية أصل الدين.
[١٨] شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - ط عطاءات العلم (ج٢/ص٤٤٥) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[٢] علة الثمنية.
[٣] أخرجه البخاري (٢١٤٨).
[٤] أخرجه البخاري (٧٥٠)، ومسلم (٤٢٩).
[٥] الإشراف على مذاهب العلماء (ج٣/ص٢٠٠) - ابن المنذر (ت ٣١٩).
[٦] أخرجه البخاري (١٢٢٠)، ومسلم (٥٤٥).
[٧] أخرجه البخاري (٣٤٥٨).
[٨] أخرجه ابن خزيمة (٩٠٩)، وابن حبان (٢٢٨٦)، والطبراني في الأوسط (٦٩٢٥)، الألباني؛ إسناده ظاهره الصحة، أصل صفة الصلاة (١/٢٢٧).
[٩] مجموع الفتاوى (ج٢٩/ص٢٨٨) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[١٠] المصدر السابق ص٢٨٧-٢٨٨.
[١١] المصدر السابق ص٢٩٠.
[١٢] المصدر السابق ص٢٩١.
[١٣] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (ج٦/ص٣١١).
[١٤] مجموع الفتاوى (ج٢٩/ص٢٨٦) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
[١٥] المصدر السابق ص٢٩١-٢٩٢.
[١٦] مجموع الفتاوى (ج٢٩/ص٢٨٥).
[١٧] شرعية السلاطين برعاية أصل الدين.
[١٨] شرح عمدة الفقه - ابن تيمية - ط عطاءات العلم (ج٢/ص٤٤٥) - ابن تيمية (ت ٧٢٨).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق