البساطة لا تقابل الجمال والغنى

من الزهد المستحب البساطة في الملبس والمسكن والمركب، والبساطة لا تقتضي لبس المرقع والصوف ولا طلب الفقر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اقتفى أثرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
الزهد المستحب هو ترك فضول المباح والبساطة في المسكن والمركب والملبس.
قال رسول الله ﷺ: (لو كان لي مثل أحد ذهباً، لسرّني أَن لا تمر عليّ ثلاث ليال وعندي منه شيء إِلاّ شيء أرصده لدين)، متفق عليه.
والبساطة في الملبس لا تقتضي لبس الصوف أو المرقع البالي.
فقد قال رسول الله ﷺ: ("لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: "إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس") [١].
ولا تقتضي البساطة طلب الفقر، فقد تعني إنفاق المال.
والقول بتفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر من أسباب انحطاط المسلمين، لأن فقر القطاع الخاص إضعاف للاقتصاد العام.
فليس في الخلفاء الراشدين الأربعة الذين هم أفضل الصحابة رضي الله عنهم فقيراً من أهل الصفة.
بل كان عثمان رضي الله عنه من أغنى أغنياء زمانه.
ولا حجة لهؤلاء فيما احتجوا به ومنه قول النبي ﷺ في حديث صحيح: (يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بخمسائة عام) لأنه قد يكون بسبب الحساب، أو لأن أكثر الأغنياء يطلبون المال للدنيا لا للإنفاق.
وقد بوب الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب فضل الغني الشاكر ذكر فيه آيات وأحاديث فضل الإنفاق وحديث لا حسد إلا في اثنتين وحديث أهل الدثور.
قال رسول الله ﷺ: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) [٢].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله ، قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم.
قال: وما ذاك؟
قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق.
فقال رسول الله ﷺ: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟
قالوا: بلى، يا رسول الله.
قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة: ثلاثاً وثلاثين مرة.
قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله.
فقال رسول الله ﷺ: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [٣].
كلمة الصوفية نسبة للصوف لتميزهم به باعتبار أنه زهد.
فالنسبة للصفَّة صُفِّي، وللصفاء صفائي، وللصفا صفوي.
وقد نقل عن الأئمة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله ذم ما تميز به المتصوفة الذين ظهروا في عهدهم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (لو أن رجلاً تصوف أول النهار، لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق) [٤].
وهذا عند ظهور العلم والحجة والقرب من عهد الرسالة.
فذم المبتدع يختلف باختلاف الأزمان وحال المبتدع ما بين جاهل وعالم وبين محدث للبدعة وتبع.
فمن افتتح باب ضلالة أشد إثماً لأن له أوزار من تبعه ولظهور العلم في عهد السلف.
ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن ابتدع بدعة مكروهة كراهة تحريم: (هؤلاء صحابة نبيكم ﷺ متوافرون)، وقال: (وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر)، وشد عليهم في النكير فقال: (أم مفتتحوا باب ضلالة؟) [٥].
قال عمرو بن سلمة الهمداني: (كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد.
فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج.
فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً.
قال: فما هو؟
فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة.
قال: فماذا قلت لهم؟
قال: ما قلت لهم شيئاً، انتظار رأيك، وانتظار أمرك.
قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم.
ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟
قالوا يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح.
قال فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم ﷺ متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة.
قالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير.
قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله ﷺ حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم.
ثم تولى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج) [٦].
وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم.
ومعظم النار من مستصغر الشرر.
فهؤلاء كانت بدعتهم مكروهة كراهة تحريم فكبرت حتى صاروا من الخوارج الذين هم كلاب النار وشر الخلق والخليقة.
ومن فوائد هذا الأثر ألا يستعجل طالب العلم إنكار ما يستغربه قبل الرجوع لمن هو أعلم وأفقه، فقد انتظر أبو موسى رأي ابن مسعود رضي الله عنهما.
ومن فوائد الأثر أن إنكار البدع المكروهة كراهة تحريم في زماننا يجب أن يكون برفق لغلبة الجهل.
قال ابن تيمية رحمه الله في المتصوفة: (تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام، وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله) [٧].
وهذا في الجهل الحقيقي.
فلا يعذر المعرض عن الحق ولو كان جاهلاً.
ومن علامات الإعراض التكذيب بالحق بمعنى إشاعة أنه كذب والصد عنه.
قال الله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: ٣۹].
فعندما يصد جاهل عما يجهله من الحق فهو متبع لهواه، لأن على الحق نور.
وقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: ١١].
وفي نقد شيخ الإسلام الأئمة الذين ذموا المتصوفة نظر، فكلامه صحيح في وقته لا في وقتهم، ولازم مذهبه في المتصوفة ليس مذهباً له.
فقوله: (ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف) فيه نقدٌ للأئمة الذين ذموا المتصوفة أول ظهورهم، ومعلوم ما نقل عن الأئمة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله في ذم التصوف والمتصوفة.
فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله: (ما تقول في أهل القصائد؟ قال: (بدعة، لا يُجالسون)) [٨].
وعن الإمام مالك قال القاضي عياض -رحمهما الله-: (فقال المسيبي: كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين:
يا أبا عبد الله عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون.
فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا.
قال أمجانين؟ قال: لا، قوم مشائخ وغير ذلك عقلاً.
قال مالك: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا) [٩].
وقال مروان بن محمد الدمشقي من أصحاب الإمام مالك -رحمهما الله-: (ثلاثة لا يؤتمنون في دين؛ الصوفي والقصاص ومبتدع يرد على أهل الأهواء) [١٠].
وسبق نقل قول الإمام الشافعي رحمه الله: (لو أن رجلاً تصوف أول النهار، لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق) [٤].
فالصحيح هو أن موقف ابن تيمية رحمه الله من المتصوفة صحيح في وقته، وموقف السلف صحيح في وقتهم.
فمع الرفق بالناس يجب الانتباه إلى خطوات الشيطان، وأن الشر ينتشر بالتدرج كما أن الخير يثبت بالتدرج.
والخطأ وإن بدى صغيراً، فقد يكون أثره عظيماً.
فالدعوة للمظهر غير اللائق والفقر تضاد التقدم والتحضر والقوة.
وقد قدم الله تعالى ذكر جهاد المال على جهاد النفس في كتابه العزيز.
وذلك في مثل قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥].
ولا توجد قوة عسكرية ولا سياسية ولا علمية بدون قوة في المال والاقتصاد، وقوة اقتصاد البلد تقاس بجملة ناتجها المحلي والقومي، وهو يشمل قطاعاتها الخاصة.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
السبت ١٨ ربيع الأول ١٤٤٦هـ، ٢١ سبتمبر ٢٠٢٤م.

مصادر ومراجع

[١] صحيح مسلم (٩١).
[٢] أخرجه البخاري (٧٥٢٩) باختلاف يسير، ومسلم (٨١٥).
[٣] صحيح مسلم (٥٩٥).
[٤] تلبيس إبليس (ج١/ص٣٢٧).
[٥] التزام عدد في الذكر المطلق.
[٦] رواه الدارمي (٢١٠)، والطبراني في الكبير (٨٦٣٦)، وابن نعيم في الحلية (٤ / ٣٨١)، وصححه الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة (ج٥ص/١١)، سنن الدارمي » المقدمة » باب في كراهية أخذ الرأي (٢١٠).
[٧] مجموع الفتاوى(ج١١/ص١٨).
[٨] الجامع لعلوم الإمام أحمد (ج١٣/ص‏٢٢٨).
[٩] ترتيب المدارك وتقريب المسالك (ج٢/ص٥٤) - القاضي عياض (ت ٥٤٤).
[١٠] ترتيب المدارك وتقريب المسالك (ج٣/ص٢٢٦) - القاضي عياض (ت ٥٤٤)
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق