لم أجد للسابقين قولاً بأنّ الائتمام في تكبيرات العيدين بدعةٌ، وتكبير المجتمعين في العيدين جهراً فرادى أو بصوتٍ واحدٍ بدون ائتمام فيه تشويشٌ أظهر من منازعة الإمام القراءة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لم أجد للقول بأنّ الائتمام في تكبيرات العيدين بدعةٌ نقلاً معتبراً عن السابقين.
ولعلّ أوّل من قال به التويجري رحمه الله في كتابٍ بعنوان؛ إنكار التكبير الجماعي وغيره.
والقول بأنّ ما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم ليس فيه متابعةٌ مخالفٌ للظاهر.
وكذا دعوى أنّ كلام الإمامين مالكاً والشافعي رحمهما الله ليس مراداً به التكبير الجماعي.
وما نقله التويجري رحمه الله عن ابن الحاج رحمه الله ليس مراداً به أنّ تكبيرات العيدين جماعةً بدعةٌ.
فربّما قصد ابن الحاج رحمه الله التكبير بصوتٍ واحدٍ بدون ائتمامٍ، وذلك لأنّه كان يتحدّث عمّا يفعله المؤذّنون في عهده.
فهو مالكي لا يخفى عليه قول الإمام مالك رحمه الله في المسألة.
قال ابن الحاج رحمه الله: (ثم إنّهم يمشون على صوتٍ واحدٍ، وذلك بدعةٌ، لأنّ المشروع إنّما هو أن يكبّر كلّ إنسانٍ لنفسه، ولا يمشي على صوت غيره) [١].
ولو أراد النهي عن الائتمام لقال: (لا يتابع غيره) لا؛ (ولا يمشي على صوت غيره).
ومن يأتمّ بغيره يكبّر لنفسه ولو وافق صوته صوت غيره.
قال ابن الحاج رحمه الله في تبليغ الجماعة عن الإمام: (هذا ما لم يتعمّد أن يمشي على صوت غيره) [٢].
والمبلّغ عن الإمام مؤتمّ به.
وربّما قصد ابن الحاج النهي عن تعمّد المؤتمّين توحيد أصواتهم.
قال الحطّاب الرّعيني المالكي رحمه الله: (فإذا سلّم الإمام من صلاة الفرض في تلك الأيّام كبّر تكبيراً يسمع نفسه ومن يليه، وكبّر الحاضرون بتكبيره، كلّ واحدٍ يكبّر لنفسه، لا يمشي على صوت غيره، على ما وصف من أنّه يُسمع نفسه ومن يليه. فهذه هي السنّة) [٣].
الشاهد قوله: (وكبّر الحاضرون بتكبيره).
وقول الإمام مالك رحمه الله: (تكبير الإمام والناس معه) هو في الائتمام، وذلك لموافقته ما ثبت من فعل الصحابة رضي الله عنهم، ولأنّ التشويش في التوافق بدون ائتمام في التكبير مثل منازعة الإمام القراءة، بل أشدّ.
والشريعة لا تفرّق بين المتماثلين.
فالائتمام هو معنى قول الإمام مالك: (الأمر عندنا أنّ التكبير في أيّام التشريق دبر الصلوات. وأوّل ذلك تكبير الإمام والناس معه) [٤].
فالإمام مالك يحتجّ بعمل أهل المدينة، وعملهم لن يخرج عن فعل الصحابة رضي الله عنهم لقرب العهد والمكان.
عن أم عطيّة رضي الله عنها قالت: (كنّا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتّى نخرج البكر من خدرها، حتّى نخرج الحيض، فيكنّ خلف الناس، فيكبرنّ بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته) [٥].
روى البخاري معلّقاً: (وكان عمر رضي الله عنه يكبّر في قبّته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبّرون ويكبّر أهل الأسواق حتى ترتجّ منى تكبيراً) [٦].
وروى معلّقاً أيضاً: (كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيّام العشر يكبّران، ويكبّر الناس بتكبيرهما) [٧].
والباء للإلصاق أصالةً، فلزم أن يكون ظاهر معناها في هذا السياق الائتمام والمتابعة.
وقول الإمام الشافعي رحمه الله: (جماعةً وفرادى) وصفٌ لحالين مختلفين، فالتكبير فرادى عندما يكون الناس في أماكن متفرّقة.
وقول الإمام الشافعي رحمه الله: (جماعةً وفرادى) وصفٌ لحالين مختلفين، فالتكبير فرادى عندما يكون الناس في أماكن متفرّقة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (فإذا رأوا هلال شوال أحببت أن يكبّر الناس جماعةً وفرادى في المسجد والأسواق، والطرق، والمنازل، ومسافرين، ومقيمين في كلّ حال) [٨].
التشويش في التكبير الجماعي بدون متابعةٍ أشدّ منه في منازعة الإمام القراءة في الصلاة، وكذا في الفردي جهراً للمجتمعين.
فالتشويش في القراءة يحدث للمأموم لعدم معرفته مواضع سكتات الإمام ونحوها.
وهو أشدّ في التكبير الجماعي بدون ائتمامٍ بواحدٍ لأنّ التكبير جهري ولتنوّع صيغ التكبير.
ما قرّره ابن الحاج رحمه الله من أنّ السنّة أن يُسمع المكبر نفسه ومن يليه قد يخالف ما صحّ من ارتجاج منى بالتكبير.
فيبدو أنّه لا بأس بتوحيد الصوت والتغنّي بدون تكلّف.
وليس للمقلّد في المسألة الإنكار على باحثها.
ولم يكن السلف يسارعون في إنكار كلّ ما يظنّونه بدعةً [٩].
فعندما رأى أبو موسى الأشعري بدعةً في المسجد، لم ينكرها انتظاراً لقول ابن مسعود، رضي الله عنهما.
والاجتماع على ذكرٍ فردي بدون اعتقاد استحباب الاجتماع من البدع المكروهة كراهة تحريم [٩].
وإنكارها واجب ما دامت واضحة بيّنة وكان المُنكر فقيهاً بدرجات إنكار المنكر مراعياً مقاصده.
وأمّا المسائل الظنيّة في ذاتها أو بسبب ضعف علمٍ مع وجود من يُظن أنّه أعلم، فلا ينبغي التعجّل في إنكارها، وهكذا كان السلف.
فقد قال أبو موسى الأشعري لابن مسعود، رضي الله عنهما: (ما قلتُ لهم شيئاً، انتظار رأيك، وانتظار أمرك).
وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد رأى؛ (في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كلّ حلقةٍ رجلٌ، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مئةً، فيكبّرون مئةً، فيقول: هلّلوا مئةً، فيهلّلون مئةً، ويقول: سبّحوا مئةً، فيسبّحون مئةً).
فاشتدّ نكير ابن مسعود رضي الله عنه عليهم بمثل قوله: (والذي نفسي بيده إنّكم لعلى ملّة هي أهدى من ملّة محمّد أو مفتتحو باب ضلالة) [٩].
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الإثنين ٦ ذو الحجة ١٤٤٦هـ، ٢ يونيو ٢٠٢٥م.
[١] المدخل (ج٢/ص٢٨٥) - ابن الحاج (ت ٧٣٧هـ).
[٢] المدخل (ج٢/ص٢٠٩) - ابن الحاج (ت ٧٣٧هـ).
[٣] مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (ج٢/ص١٩٨) - الرعيني، الحطاب (ت ٩٥٤هـ).
[٤] موطأ مالك (ج١/ص٤٠٤) - مالك بن أنس (ت ١٧٩هـ) - رواية يحيى - ت عبد الباقي.
[٥] أخرجه البخاري (٩٧١)، ومسلم (٨٩٠).
[٦] صحيح البخاري (ج٢/ص٢٠) - البخاري (ت ٢٥٦هـ).
[٧] المصدر السابق، الألباني؛ صحيح، إرواء الغليل (٦٥١).
[٨] الأم (ج١/ص٢٦٤) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٩] التزام عدد في الذكر المطلق.
[٢] المدخل (ج٢/ص٢٠٩) - ابن الحاج (ت ٧٣٧هـ).
[٣] مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (ج٢/ص١٩٨) - الرعيني، الحطاب (ت ٩٥٤هـ).
[٤] موطأ مالك (ج١/ص٤٠٤) - مالك بن أنس (ت ١٧٩هـ) - رواية يحيى - ت عبد الباقي.
[٥] أخرجه البخاري (٩٧١)، ومسلم (٨٩٠).
[٦] صحيح البخاري (ج٢/ص٢٠) - البخاري (ت ٢٥٦هـ).
[٧] المصدر السابق، الألباني؛ صحيح، إرواء الغليل (٦٥١).
[٨] الأم (ج١/ص٢٦٤) - الشافعي (ت ٢٠٤هـ) - ط الفكر.
[٩] التزام عدد في الذكر المطلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق