إنما المحنة عندما لا نميز بين النصر والهزيمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الصالحين، كتب في علم الغيب عنده أن العاقبة للمتقين. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.
أيام الأحداث الدامية التي انفطر لها قلب كل مؤمن في غزة عام 2008م كتبت منتقداً بعض مواقف حركة المقاومة الإسلامية حماس وسياساتهم في غزة في الحرب وما قبلها، الأمر الذي لم يفهمه البعض في غمرة العاطفة والحماس، ولكن وبعد مرور الأيام رأيت من كَتَب وإن كان على استحياء في موقع الجزيرة يعضد ما ارتأيت في تلك الأيام الحزينة التي مرت على أمتنا المسلمة.
ومجرد الخطأ في التقدير أمرٌ يسير لإمكان تداركه، بخلاف الخطأ في أصول الفهم أو الإصرار على الخطأ، فقد وقعت الهزيمة في بعض المعارك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في غزوة أحد، فالواجب يحتِّم شحذ الهمم وإقالة العثرات والتذكير بأن الأيام دول، وأن الحرب سجال، وواجب النصيحة والأخوة الإسلامية يملي على الصادق مع نفسه وإخوانه أن يقول لمن يخطيء أخطأت، لأن تركه على الخطأ يعين الشيطان والعدو عليه.
قال الله عز وجل في شأن غزوة أحد: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وبيَّن الله عز وجل لهم سبب الهزيمة في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}.
طرحت في مقال سابق هذا السؤال؛ كيف نفرِّق بين النصر والهزيمة في المعارك التي نخوضها بإرادتنا؟ وللإجابة على هذا السؤال ضربت مثالاً بغزوة أحد التي عدَّها القرآن الكريم مصيبة واعتبرها كتاب السيرة هزيمة، ولا علينا بمن اعتبرها نصراً من كتاب السيرة النبوية الشريفة، لأن مثل هذا التقييم إنما هو اعتبار بالمآل والعاقبة، وما هو إلا من أساليب البلاغة لأجل شحذ الهمم ومقاومة الشعور بالضعف، فلما كانت الخسائر أكثر في غزوة أحد سميت نتيجة غزوة أحد هزيمة، سواء كانت الخسائر في الأرواح أو في غيرها.
ولا شك أن خسارة الأرواح هي ربح للشهداء لأن مصيرهم الجنة ولأنَّ الشهادة هي إحدى الحسنيين، ولكنها خسارة بالمعيار الدنيوي للنصر والهزيمة في ميدان المعركة، قال الله عز وجل في محكم كتابه حكاية عما أصيب به المسلمون في غزوة أُحد من عدد الشهداء مقارنة بما أصابوا في غزوة بدر من قتلى المشركين: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
لقد رفضت حماس قبل الحرب تمديد الهدنة المبرمة مع إسرائيل، ولما طالبت مصر بتمديد الهدنة عبر الوساطة الإسرائيلية رفضت حماس تمديد الهدنة بسبب أن اليهود أصروا على عدم رفع الحصار عن غزة، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وقَّعت حماس هدنة جديدة مع إسرائيل، وقد تم توقيع الهدنة بعد الحرب دون الاستجابة لشرط حماس العادل لتمديد الهدنة وهو رفع الحصار الظالم عن شعب غزة، وذلك بعد تدمير البنية التحتية في غزة، وقتل كثير من الأبرياء والعزل، واستشهاد عدد كبير من جنود المقاومة، ولا ندري شيئاً عن خسائر العدو، وكل ما ذكره إعلام المقاومة هو أن إسرائيل تُخفي هزائمها.
لا شك أن النصر في آخر المطاف سيكون للفئة المؤمنة {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، ولكن الكلام هنا ليس عن العاقبة الحتمية التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عن آحاد المعارك التي تدور بين المسلمين واليهود، فيبدو لي أن تكرار الهزيمة وتعلقنا بالقشة كالغريق هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة التي صرنا لا نميز فيها بين النصر والهزيمة.
فقد كان لأفضل فعل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام حصار الأحزاب لهم في المدينة حيث حفر الخندق ولم يخرج لقتال الأحزاب، وقد كفى الله المؤمنين القتال ورفع الحصار عنهم بالريح؛ {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}. فقد انتهت الحرب ودمر القطاع واستشهد عدد كبير من المواطنين والمجاهدين ووقعت الهدنة دون رفع الحصار عن غزة.
البعض يُعلِّل هزيمة إسرائيل وانتصار المقاومة بعدم قدرة إسرائيل على تحقيق هدفها المعلن وهو القضاء على المقاومة، فهل هذا هو الهدف الحقيقي لإسرائيل، وهل قضى مشركو قريش على المسلمين في غزوة أحد؟ وأما قول الله عز وجل: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}، فهذا في المعارك المفروضة علينا دون اختيارنا أو قدرتنا على تفادي حدوثها، لأن النجاة من الهلاك ترجى منها مصلحة راجحة في المستقبل.
والبعض يقول إنَّ المقاومة نجحت وانتصرت لأنها أشعلت روح المقاومة في المسلمين وإن كانت النتيجة خسائر فادحة في الممتلكات والأنفس والأموال، فمتى كانت الهزيمة سبباً لحفز الهمم؟ ألا يدل العقل على أن الهزائم المتكررة سبب لزيادة الضعف في الاقتصاد والقوة العسكرية والبشرية وإلى إضعاف المعنويات القتالية؟ أم أنَّ الهمم العالية هي المظاهرات الغاضبة التي انتظمت بلاد المسلمين عربهم وعجمهم؟
لقد كانت الهزيمة في بعض المعارك لما كان القرآن ينزل سبباً لإضعاف الهمم والتولي يوم الزحف؛ {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
والخطأ في التقدير يسير، لأن كل عامل ومجتهد معرض للخطأ، ولو علم النبي صلى الله عليه وسلم الغيب لما مسه ما مسه في غزوة أحد، وإنما الخطورة في تبرير الخطأ والتأصيل له، مما يجعلنا نعيش في سبات وأحلام، ويجعلنا نكرر الخطأ تلو الخطأ فنزداد ضعفاً ويزداد عدونا قوة وصلابة.
لقد رفضت حماس أول الأمر الدخول في الانتخابات في غزة باعتبار أنها لا تمثل إلا بلدية في ظل الاحتلال، وأنها نتاج لاتفاقيات منظمة التحرير الفلسطينية مع اليهود التي رفضتها حماس، ثم ما لبثت إلا حيناً قبل  إعلان الدخول في الانتخابات بحجة أن ترك السلطة لمنظمة التحرير سيساهم في القضاء على المقاومة، ثم فازت حماس بأغلب المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006م بسبب الفساد الإداري والاقتصادي في منظمة التحرير، وبسبب تقديمهم الخدمات الاجتماعية لأهالي غزة عبر الدعم الذي يتلقونه من سوريا وإيران، وكانت حركة فتح تفوز قبل ذلك بأغلبية في أكثر الانتخابات حتى على مستوى اتحادات الطلاب في الجامعات الفلسطينية، فهل يمكن الجمع بين المقاومة وإدارة القطاع؟ وهل ترك السلطة والحكم يؤدي فعلاً إلى القضاء على المقاومة؟
ورد في موقع الجزيرة نت في تعريف بحماس العبارة التالية -بحسب تعبير موقع الجزيرة نت؛ (وتعتبر حماس أنها ليست على خلاف مع اليهود لأنَّهم مخالفون لها في العقيدة، ولكنها على خلاف معهم لأنهم يحتلون فلسطين)، وكان الأولى أن يقال: "إنَّ خلافنا مع اليهود ليس لمجرد مخالفتهم لنا في العقيدة، وإنما لمحاربتهم لنا في عقيدتنا وديننا باحتلالهم فلسطين".
الولاء للكفار محرَّم لذاته إذا كان في الدين، ويحرم لغيره إذا كان في غير الدين، ومن المُحرم لغيره صلة المحارب في الدين، لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، فالتولي هنا هو الصلة الواردة في آية البر والقسط السابقة لهذه الآية، وقد ذكرت أقوال المُفسرين في أن البر هو الصلة في مبحث في الولاء الشرعي وفيه المزيد حول الولاء؛ مدونتي » إصلاح » الموجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير  » الولاء الشرعي.
والولاء والبراء في الدين مُقدَّم على الولاء والبراء في الأوطان والقوميات والقبائل والتجارات والأموال والآباء والأمهات وسائر حطام الدينا الفانية، لا كما يقول البعض بغض النظر عن مرادهم: "عداوتنا مع اليهود ليست دينية وإنما في الأرض والوطن"، فمثل هذا الكلام لا ينبغي أن يقوله من عرف حقيقة الإسلام.
وذلك لأن الكفار وإن كان بعضهم لا يعادينا في ديننا وإنما يعادينا في أوطاننا وقومياتنا وأموالنا، فنحن لا نعاديهم فقط لهذه الأسباب التي لا تسوى عندنا شيئاً، وإنما نعاديهم لمحاربتهم الإسلام والمسلمين وفتنتهم المسلمين عن دينهم بالقتال والإخراج من الديار ونحو ذلك، حتى وإن كان هدفهم اقتصادياً محضاً كما هو الحال في كثير من الأحيان، وذلك لأن الأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية دائماً ما يصحبها حرب على الدين أو جزء منه لأجل تمرير مخططاتهم وجرائمهم.
واليهود وإن كانوا يحسدون بني إسماعيل عليه السلام ويعادون العرب، فإن عداوتنا معهم ليست لكونهم بني إسرائيل وإنَّما لعداوتهم للإسلام والمسلمين بغض النظر عن سبب كفرهم {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا}.
وداوود وسليمان عليهما السلام وهما من بني إسرائيل حكموا الأرض المقدسة، ولا شك أن حكمهم كان بالحق، ولم يكن الحق في الأرض المقدسة للقوم الجبارين المذكورين في القرآن، وقد قيل إنهم من العرب العاربة.
ولكن إذا ادعى اليهود باسم القومية الإسرائيلية أنهم أحق بالأرض في المحافل الدولية، فيمكن إلزامهم بأن العرب كانوا قبلهم، ليس لتأكيد قومية القضية وإنما من باب الإلزام، ويجب أن تبقى القضية قضية إسلامية ويبقى النزاع لأجل الدين لا لأجل الوطن بمعزل عن الدين.
إن التساهل الذي درج عليه البعض في العقيدة والأصول هو من أهم أسباب فشلهم، فقد قرأت يوماً في الموقع غير الرسمي لحماس على الإنترنت -حسب الجزيرة نت- والذي يُسمَّى بالمركز الفلسطيني للإعلام نقلاً عن كتاب للدكتور مصطفى السباعي بعنوان "نظام الحرب والسلم في الإسلام" قوله: (فالغرض من الجهاد في سبيل الله كما ترى صيانة الكنيسة وأماكن العبادة وفيها المساجد من عدوان المتعصِّبين، وليس الغرض منه ما يقوله أعداء الإسلام أن يقوم المسجد على أنقاض الكنيسة، بل أن يقوم المسجد بجانب الكنيسة رمزاً لعبادة الله في مختلف طرق العبادة، ودليلاً على وحدة الأهداف العامة بين ديانات السماء، ومصدراً للإشعاع الروحي والسمو الخلقي في الأمة).
نعم يجب على الحاكم المسلم حماية أهل الذمة من النصارى وغيرهم وحماية الكنيسة التي أقرها بصلح أو عهد ضد عداون المتعصبين، ولكن ليس هذا هو الغرض من الجهاد في سبيل الله عز وجل، قال القرافي المالكي رحمه الله تعالى: (والذي إجماع الأمة عليه أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله)[1].
ومن الخطورة بمكان أن يقال إن الغرض من الجهاد هو أن يقوم المسجد بجانب الكنيسة، والأدهى من ذلك أن يقال إن بقاء الكنيسة إلى جانب المسجد هو رمز لعبادة الله بمختلف طرق العبادة، لما في هذا من إقرار النصارى على دينهم الباطل وعبادتهم الباطلة، وازداد الأمر سوءاً باعتبار دور العبادة كلها مصدراً للإشعاع الروحي والسمو الخلقي في الأمة، ودليلاً على وحدة الأهداف العامة بين ديانات السماء.
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وإذا كانت مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد سبباً للهزيمة، وكان إعجاب المسلمين بعددهم في غزوة حنين سبباً للهزيمة، فكيف نرجو النصر ونحن نخالف الشرع بما هو أعظم من ذلك بكثير؟ علماً بأن العدو أكثر منا عتاداً ومالاً وأحكم منا تخطيطاً ودراسة.
كيف يصح أن يغلب ولد في سن العاشرة رجلاً في سن الأربعين في المصارعة؟ أليس هذا مخالف للعقل؟ فلا يمكن النصر حال الضعف بغير ممد خارق للطبيعة من الله سبحانه وتعالىن، وإذا تساوينا في المعصية فاقونا بالعدد، فهل نحن نقاتل لأجل قومية؟ وهل القتال لأجل القومية إلا عصبية وحمية جاهلية؟ اللهم اهدنا واهد قادتنا وزعماءنا إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
 لينشوبنج، السويد
الثلاثاء 10 ربيع الثاني 1432هـ، 15 مارس 2011م

المصادر

pdf
رجوع إلى قسم سياسة واقتصاد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق