سبق أن أهل الحل والعقد هم ممثلوا الناس من العلماء والحكماء والخبراء وسائر أعيان الناس ورؤسائهم، انظر؛ شروط أهل الحل والعقد.
وسبق أنه لن يكون للناس أعيان ورؤساء وأقياد إلا عبر تجمعاتهم الطبيعية أو تحالفاتهم المعقودة.
وقد كانت التجمعات سابقاً عن طريق العرفاء والقبائل والعشائر، وروابط هذه التجمعات وأثرها أقوى من روابط وآثار الأحزاب السياسية.
للأثر الفعال للعمل الجماعي المنظم فإن التعدد السياسي في النظام التَّشْوَقِي في شكل جماعات نصح سياسية غير حزبية تتنافس في مصلحة البلد لا على السلطة.
ويجب أن يكون تباين آراء جماعات النصح سائغاً شرعاً وعقلاً في الأصل، ويجب عند عدم القدرة والاضطرار اعتبار التباين غير السائغ للتوافق، وما من نظام إلا ويعتبر بعض التباين في الآراء غير سائغ كالتمييز العنصري.
ومجال عمل جماعات النصح هو نفس مجال عمل الأحزاب السياسية غير أن جماعات النصح لا تسعى لسلطة بترشيحات ولا محاصصات، هذا إضافة إلى فارق الضوابط الشرعية في المجالات المُشتركة.
وبهذا يُدفع شر الدول المعادية التي غزتنا ثقافياً، بإيهام مثقفينا بأنه لا تعددية بدون أحزاب، محتجة بفاعلية العمل الجماعي المنظم، وبادعاء أنها تدعم مطالب أهل البلد لتنفي عن نفسها التدخل في شؤون الآخرين.
فرق السعي للسلطة بين جماعات النصح والأحزاب السياسية يمنع التنازع والصراع القذر، ولا يوجد استقرار سياسي مع تنافس حزبي إلا في نظام مُدارٍ، وذلك لأن الولايات محدودة ومهمة؛ فالرئيس واحد، وكذا رئيس الوزراء ووزير الصحة وحاكم الولاية، وهكذا، وكلما قل المُتنافس عليه وزادت أهميته وطلبه زاد الصراع عليه.
ويمنع هذا الفرق أيضاً العداء المبني على حظوظ الأشخاص ومطامع التكتلات، لأن الحزب هو الجماعة التي تتعارض مصالحها مع آخرين وبالتالي يُعقد عليه ولاء وبراء.
مما يدل على معنى الحزب قول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}، والغلبة بالنصرة، وهي ركن في الولاء، وركنها الثاني هو المحبة.
وفي الآية معنى تعارض مصلحة حفظ الدين مع ولاء غير المُسلمين، لحصر الولاء بسابقتها؛ {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤتونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعونَ}.
والولاء الشرعي هو كل اقترابٍ معنوي أو حسي له أثرٌ في الاستقامة على الدين أو نصرته.
والتحزب مذموم لما فيه من تفريق المُسلمين، وذلك عندما يكون الولاء والبراء على غير الأصول البينة.
والجماعة تطلق على المتشاكلين في أمرٍ كالعقيدة والرأي والجنس، ولكن مصالحها لا تتعارض ضرورةً مع مصالح مخالفيها، وبالتالي لا تستلزم براءاً منهم.
وكل اجتماع ديني أو دنيوي لابد فيه من انتماء خاص فيه خصوص صلةٍ أو محبة أو تناصر من غير استلزام تعارض مصالح مع مخالف وبراءٍ منه.
ولذا فكل حزب جماعة وليست كل جماعة حزباً.
فالجماعة لا تذم إلا إذا كانت حزبية، ولذا نجد أن العلماء يقولون "الحزبية" عندما يذمون العصبية والتفرق، ولا يقولون "الجماعية"، فلم ترد كلمة الجماعة في مورد الذم إلا إذا كانت فيها عصبية.
والتفريق بين المنظمة والجماعة والحزب اصطلاحي، والحزب يُطلق عليه منظمة لأنه منظمٌ، وكذا الجماعة المنظمة، والأحزاب السياسية مندرجة تحت منظمات المجتمع المدني قبل فوزها وتحولها إلى أحزاب حاكمة.
فالمنظمة لها معنىً عام، ولها معنىً خاص وهو التنظيم المختص بأمور مشتركة بين الناس كالمنظمات الخيرية.
وما في جماعة النصح من خصوص صلة أو محبة أو تناصر فهي في المصالح العامة، وضرر المطامع الخاصة فيها مرجوح لأنها مطامع عادية أوفر عدداً وأقل أهمية من الوظائف العليا.
ولا إشكال في تباين آراء جماعات النصح، لأنها تتنافس في تحقيق المصالح العامة لا على السلطة.
وهذا الشكل التعددي يحصر طريقة تحقيق الرؤى السياسية المُتباينة في الاستفتاءات العامّة والتخصصية بدلاً عن الصراعات الحزبية.
وتمثل المنظمات المدنية ومنها الدعوية والسياسية لوبيات علنية موجِّهةً للانتخاب الهرمي بلا غش ولا كتمان.
وعند وجود أحزاب ولوبيات يحق لجماعات النصح منافستها في السيطرة على الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية، وذلك لإبعادهم عن استخدامها في صراعهم السياسي، وللمحافظة على عملها الخدمي الحقوقي.
وضرر التنافس على الاتحادات والنقابات محدود ومحتمل مقابل مصالحه، وذلك لما سبق من أن الوظائف العادية أكثر وأقل أهمية من العُليا، وأما الوظائف السياسية العليا فيشتد التنافس عليها لقلتها وأهميتها البالغة.
ولجماعات النصح دور كبير في الإصلاح السياسي، وذلك بجهودها في شتى المجالات كالإعلام والبحوث والدراسات والنصح والتقويم.
ويجب منع أي علاقة لجماعات النصح بجهات حُكومية خارجية من غير ترخيص من المجلس السيادي، وذلك منعاً لاستخدامها كلوبيات عميلة للأجنبي.
ولم أختر اسم جماعات الضغط لأنه يوحي بأنها مختصة بالضغط والمعارضة، وأما لفظ جماعات النصح فهو أوسع معنىً ويوحي بأن لها برامج سياسية متكاملة.
فجماعات النصح تؤيد وتعترض وتطالب ولو بضغط بضوابط شرعية وعقلية، فتؤيد الصحيح من السياسات، وتنصح سراً وبالرفق، ولا تنصح علناً إلا في حضور المُنتقد حقيقةً أو حُكماً وبقدر ما تقتضيه الحاجة، ولا تصحِّح بالشدة والضغط إلا بقدر ما تقتضيه الحاجة، والسلطات حاضرة حُكماً في وسائل التقويم عبر الوسائط الحديثة، ويُشترط في المسائل الخفية تمكُّن المُنتقَد من الدفاع عن نفسه في نفس الجلسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق