المواطنة كلمة مستحدثة تعني الانتماء للوطن السياسي القائم على حِلف سياسي فيه روابط مشتركة أخرى إضافةً للديار والأوطان المعروفة قديماً في اللغة العربية.
وذلك لأن الوطن السياسي يضم غالباً الأوطان الحقيقية لمواطنيه، أعني الأوطان المعروفة قبل استحداث إطلاق كلمة الوطن على الوطن السياسي.
والمواطِن على وزن مفاعل كمُساكِن، وواطنه تعني وطن معه كما تعني ساكنه؛ سكن معه.
ومعناها يوحي بالاتفاق والتعاهد، فهي مناسبة لأنها تعني الانتماء لديارٍ معينة بناءً على حِلف وميثاق وطني.
والأفعال الأصيلة في اللغة هي؛ وطن وأوطن واستوطن، خلافاً لواطن فمعناها الأصيل هو أضمر فعله معه [١] .
والوطن الحقيقي المحبوب فطرياً هو بلد المولد والنشأة والعشيرة، وعشيرة الرجل هم أقرباؤه الذين يعاشرهم.
وحب الوطن السياسي الفطري تبعٌ لأنّه يضم الأوطان الحقيقية لغالب مواطنيه ولما بين المواطنين من روابط دينية ودنيوية وتحالف سياسي.
والصحيح في أهل الوطن السياسي الواحد تسميتهم أمّة أو قوم، ولا يصح غالباً تسميتهم شعباً.
فالشعب هم الجماعة من الناس التي لها نسب بعيد، وعادةً ما يضم الشعب الواحد قبائل متعددة.
ومن أمثلة الشعوب؛ القحطانيون والعدنانيون وبنو إسماعيل.
ومن درجات النسب؛ القبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة والعشيرة.
وأمّا الأمّة في اللغة فهي من أمّ بمعنى قصد، فالأمّة من الناس هم الجماعة التي لها مقصد مشترك يعملون له.
والإمام هو الذي يقصد للاقتداء به، ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢۰].
والقوم في اللّغة مصدر قام، فالقوم هم الجماعة من الناس التي لها رابطة جامعة يقومون لها.
فالمواطنون أمّة واحدة تجمعهم مقاصد وأهداف مشتركة، وهم قوم واحد تجمعهم روابط مشتركة يقومون لها كالدين والدم (شعوب بينها رحم) والذمّة (الميثاق الوطني) واللغة والعادات.
قال ابن منظور رحمه الله في معنى الأمّة: (وأصل هذا الباب كله من القصد. يقال: أممت إليه إذا قصدته، فمعنى الأمّة في الدين أنّ مقصدهم مقصد واحد) [٢].
وقال: (قال ابن الأثير: القوم في الأصل مصدر قام) [٣].
فالوطن السياسي غالباً ما يضم شعوباً بينها رحم.
والشعب درجة عالية من النسب في قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
قال الطبري رحمه الله: (عن مجاهد، قوله (شعوباً) قال: النسب البعيد. (وقبائل) دون ذلك) [٤].
وللشعوب التي بينها رحم خصوص صلة لقول النبي ﷺ: (إذا افتتحتُم مصرَ فاستوصوا بالقبطِ خيرًا، فإنَّ لهم ذمةً ورحماً)، قال الألباني رحمه الله تعالى: (صحيح على شرط الشيخين) [٥].
وفي صحيح مسلم؛ (إنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيراطُ، فاسْتَوْصُوا بأَهْلِها خَيْرًا، فإنَّ لهمْ ذِمَّةً ورَحِمًا) [٦].
وفي صحيح مسلم؛ (إنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أرْضًا يُذْكَرُ فيها القِيراطُ، فاسْتَوْصُوا بأَهْلِها خَيْرًا، فإنَّ لهمْ ذِمَّةً ورَحِمًا) [٦].
والمواطنة عقد فيه تحقيق مصالح المتعاقدين فلزم أن تكون بين أفراده صلة خاصة، يدل على ذلك قوله في الحديث؛ (لهمْ ذِمَّةً)، فالذمة هي العهد والأمان.
فالانتماء للديار والشعوب والقبائل جائز، وكلمة الولاء عند الإطلاق ينصرف معناها للولاء الشرعي القائم على حفظ الدين، وهو كل اقترابٍ معنويٍ أو حسي له أثر في الاستقامة على الدين أو نصرته.
وكما أن عقد المواطنة سائغ شرعاً، فإنه قد يكون بصيغة سائغة كوناً وقدراً اعتباراً للقُدرة والإمكان.
والإمكان مقابل التعذر، والقدرة مقابل التعسُّر والأضر، فالقدرة تعني الوُسع.
فقد يقتضي الحال التوافق على ميثاق وطني فيه احتمال ضرر أخف لدفع ما هو أضر كالتعدد السياسي غير السائغ شرعاً وعرفاً.
وذلك في بعض البلاد كلبنان التي ثلث أمتها سنة وثلثهم نصارى وثلثهم رافضة وباطنية، هذا مع تفرق السنة إلى طوائف وجماعات وتفرق المسلمين إلى دويلات وغلبة دول الغرب وهيمنتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
وقد كان في المدينة توافق مع غير المسلمين يشبه التواثق الوطني على تعدد سياسي غير سائغ في أصله.
وهذا من باب الإقرار على غير المشروع لا الإقرار به، وفيه شبه بإقرار أهل الذمّة على أديانهم الباطلة.
ومع ضعف وثيقة المدينة فإن بعض بنودها ثابتة عُرْفاً بدلالة النصوص والسيرة.
ومما ورد في وثيقة المدينة من بنود دل عليها العرف؛ الدفاع المُشترك؛ "وإن بينهم النصر على من دهم يثرب"، والاستقلالية المالية؛ "وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم"، والمرجعية لأهل الشوكة؛ "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد"، وفي وقتها تعددت أنظمة القضاء.
فغزوة الأحزاب تدل على تحالف مع اليهود في الدفاع عن المدينة، وعلى أنه كان لليهود استقلالية حربية ومالية، وتدل الآية المنسوخة حُكماً في تخيير النبي ﷺ بين الحكم بين اليهود أو الإعراض عنهم على أنه كان لليهود نظامهم القضائي الخاص بهم قبل غدرهم ونسخ الحُكم مرحلياً حسبما تقتضيه الضرورة.
ولذا جاز عند الضرورة إقرار أهل الذمة على إنشاء محاكم خاصة بهم يحكم فيها قضاتهم بأحكامهم التي لا توافق الشريعة، مع أن أحكامهم لا تحقق مصالحهم ولا تدفع المضار عنهم، وذلك من باب دفع الأضر وتخفيف الشر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة وتعذر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه ، فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك) [٧].
وكلام ابن القيم رحمه الله تعالى إنما هو في أهل ذمةٍ تمردوا على أحكام الإسلام، فليس في إلزام هؤلاء عند القدرة عليهم انتهازية، وأما من عاهدهم المسلمون ابتداءً على عدم إجراء أحكام الإسلام عليهم وكان العهد مطلقاً، فلا يُلزمون بها إلا إذا ظهرت منهم أمارات الخيانة؛ فيُنبذ إليهم عهدهم ويخيروا بين البقاء في دار الإسلام والهجرة منها قبل إلزامهم بأحكام الإسلام.
وإذا أقر المُسلمون أهل ذمة على محاكم خاصة بهم، فلا يجوز للقاضي المسلم إذا تحاكموا إليه أن يحكم بينهم بغير شرع الله تعالى، للمزيد حول إجراء أحكام الإسلام على أهل الذمة؛ مدونتي » شبهات وردود » الشريعة أجل من أن تعرض على البرلمان.
وإلزام أهل الذمة بأحكام الإسلام في المعاملات ليس فيه تعد على حرية الاختيار، فقد أجمع العلماء على أنهم لا يلزمون بأحكام العبادات الإسلامية بما في ذلك دفع الزكاة.
وأما أحكام المعاملات في الإسلام فهي تحقق المصلحة الدنيوية لجميع البشر بمن فيهم أهل الذمة وتدفع المضار الدنيوية عنهم.
والأصل في الأحكام المتعلقة بالثواب الأخروي الاختيار، لأن الإكراه فيها يُنافي معنى الابتلاء والاختبار، فالحرية هي أصل الخلق ومبدأ التكليف، فهي مبدأ التكليف لما سبق، وهي أصل الخلق لأن الله تعالى جعل للناس القدرة على الاختيار.
للمزيد حول الحرية والاختيار؛ قسم قواعد وأصول » حُرية الاختيار وأحكام العقوبات.
والجزية تؤخذ مقابل رعاية الدولة من أهل الذمة المستقيمين في معاملة المسلمين، وللصغار ممن خيفت خيانتهم بظهور أماراتها بعد الذمة أو بمحاربة وتكرار غدر قبل الذمة، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » الصغار وجريان الأحكام على أهل الذمة.
المصادر
[١] "مُوَاطِنٌ" إحداث لغوي حسن.
[٢] لسان العرب (ج١٢/ص٢٧) - ابن منظور (ت ٧١١).
[٣] لسان العرب (ج١٢/ص٥٠٥) - ابن منظور (ت ٧١١).
[٤] تفسير الطبري جامع البيان (ج٢٢/ص٣١١) - أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت ٣١٠) ط دار التربية والتراث.
[٥] السلسلة الصحيحة (١٣٧٤).
[٦] صحيح مسلم (٢٥٤٣).
[٧] كتاب أحكام أهل الذمة (ج٢/ص٧٦٨)، تحقيق؛ يوسف بن أحمد البكري و شاكر بن توفيق العاروري، الناشر؛ رمادى للنشر - الدمام، الطبعة الأولى، ١٤١٨هـ - ١٩٩٧م.
[٢] لسان العرب (ج١٢/ص٢٧) - ابن منظور (ت ٧١١).
[٣] لسان العرب (ج١٢/ص٥٠٥) - ابن منظور (ت ٧١١).
[٤] تفسير الطبري جامع البيان (ج٢٢/ص٣١١) - أبو جعفر ابن جرير الطبري (ت ٣١٠) ط دار التربية والتراث.
[٥] السلسلة الصحيحة (١٣٧٤).
[٦] صحيح مسلم (٢٥٤٣).
[٧] كتاب أحكام أهل الذمة (ج٢/ص٧٦٨)، تحقيق؛ يوسف بن أحمد البكري و شاكر بن توفيق العاروري، الناشر؛ رمادى للنشر - الدمام، الطبعة الأولى، ١٤١٨هـ - ١٩٩٧م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق