أغلظ شرك في العبادة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المحتويات
  • تمهيد
  • أعظم عبادة
  • دعاء العبادة ودعاء المسألة
  • الشرك في الدعاء
  • العذر بالجهل في الشرك في الدعاء
  • الفعل والترك في الدعاء
  • تفاوت دركات الشرك
تمهيد
سؤال للموحدين خاصة والناس عامة؛ ما هي أعظم عبادة؟ وما هو أعظم شرك في العبادة؟ وما دليل ذلك من النقل والعقل؟ فإذا كنت تعلم الإجابة فذلك فضل الله، (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، متفق عليه.
والفقه لغةً الفهم، ويشمل الحديث الفقه الأكبر وهو فقه العقيدة، وأصول العقيدة هي أركان الإيمان، وتوحيد العبادة داخل في الإيمان بالله، فتمام الحديث؛ (مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، ولا تَزالُ عِصابَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يُقاتِلُونَ على الحَقِّ ظاهِرِينَ على مَن ناوَأَهُمْ، إلى يَومِ القِيامَةِ)، متفق عليه [1].
البيان النبوي لمعنى كلمة التوحيد
عن أبي هريرة رضي الله عنه (أنَّ أعْرابِيًّا جاءَ إلى رَسولِ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولِ اللهِ، دُلَّنِي على عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصَّلاةَ المَكْتُوبَةَ، وتُؤَدِّي الزَّكاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومُ رَمَضانَ، قالَ: والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا أزِيدُ على هذا شيئًا أبَدًا، ولا أنْقُصُ منه، فَلَمّا ولّى قالَ النبيُّ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: مَن سَرَّهُ أنَّ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلى هذا)، متفق عليه واللفظ لمسلم [2].
بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث معنى كلمة لا إله إلا الله بقوله للأعرابي: (تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ به شيئًا).
فكلمة التوحيد في العبودية أصالةً، وهي تشمل الربوبية تبعاً، وذلك لأن كلمة إله في اللغة تعني معبود، فمعنى كلمة لا إله إلا الله أصالةً؛ لا معبود بحق إلا الله.
أعظم عبادة
(الدعاء هو العبادة) يعني أنه ركن العبادة الأعظم، مثل (الحج عرفة)، ومن انتكاس الفطر والجهل بأمر يتعلق بأصل الدين ما يظنه كثير من عوام المسلمين بل وبعض خواصهم أن السجود لغير الله أعظم من دعاء غير الله جل ثناؤه، ومع أن كليهما شرك أكبر إلا أنّ دعاء غير الله أعظم من السجود لغير الله، فالشرك في الدعاء أعظم شرك في العبادة بدلالة المنقول والمعقول.
أما دليل ذلك من المنقول؛ فالآيات التي تدل على أن الدعاء هو ركن العبادة الأعظم كثيرةٌ في القرآن، من ذلك تسمية الله جل ثناؤه الدعاء عبادة، ومن تسمية الدعاء عبادة أنه أمر بالدعاء ثم أعقب ذلك ببيان عاقبة من يستكبر عن العبادة، فقال: {ادْعُونِي} ثم قال: {عَنْ عِبَادَتِي} ولم يقل؛ عن دعائي، فقال تعالى ذكره: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}، سورة غافر.
ومن تسمية الله تعالى ذكره الدعاء عبادة أنه قال: {تَدْعُونَ} حكاية عن إبراهيم عليه والسلام في اعتزال عمل قومه المُنكر، ثم قال في الخبر عن اعتزال ذات العمل المُنكر: {يَعْبُدُونَ}، فقال سبحانه وتعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)}، سورة مريم.
ومن تسمية الله تعالى ذكره الدعاء عبادة أنه قال: {عَن دُعَائِهِمْ}، ثم قال عن كفر المدعويين من دون الله بدعائهم: {بِعِبَادَتِهِمْ}، فقال الله جل ثناؤه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}، سورة الأحقاف.
ومن تسيمة الدعاء عبادة قوله تعالى ذكره: {قُلۡ إِنِّی نُهِیتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ قُل لَّاۤ أَتَّبِعُ أَهۡوَاۤءَكُمۡ قَدۡ ضَلَلۡتُ إِذࣰا وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِینَ (56)}، سورة الأنعام، فقال: {نُهِیتُ أَنۡ أَعۡبُدَ} ثم وصف حال المشركين مع من نهاه الله عز وجل في علاه عن عبادته بقوله: {ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ}.
ومن بيان أن الدعاء عبادة ذِكر الدعاء مراداً به العبادة، قال الله تعالى ذكره: {وَأَنَّ ٱلۡمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُوا۟ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدࣰا (18)}، سورة الجن.
وأما الدليل من السنة على أن الدعاء هو أعظم عبادة؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدُّعاءَ هوَ العِبادَةُ، ثمَّ قرأَ: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ}) [3].
وأما معرفة أعظم عبادة من المعقول؛ فلو قارنا بين الدعاء والسجود مثلاً، فإن السجود فيه معنى الذل والخصوع والطاعة، وأما الدعاء ففيه معنى الذل والخضوع والطاعة والمحبة والرجاء والتوكل والخشية والخوف والرهبة، فجمع الدعاء كثيراً من العبادات القلبية.
والدعاء شامل لمعاني الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فمن شموله للربوبية طلب النفع ودفع الضر من الله تعالى مثل طلب الرزق والذرية وشفاء المرض، ومن شموله للأسماء والصفات دعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى بمثل قول يارحمن ارحمني.
ولأن الأصل فيمن يدعو غير الله تعالى لجلب نفع أو دفع ضر اعتقاد النفع والضر فيمن يدعوه، فإن شرك الشفعاء غالباً ما يكون بغير الدعاء من العبادات كالنذر والذبح وتقريب القرابين، وقد يقع شرك الشفعاء في دعاء غير الله ممن لبس عليهم المبطلون بأنه مجاز، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح » شفاعة الآلهة الباطلة عقيدة شركية ودعوى جدلية.
والصلاة أعظم ركن بعد الشهادتين، وهي تشتمل على الدعاء في سورة الفاتحة، فهي أعظم عبادة لاشتمالها على الدعاء، وذلك إضافة إلى اشتمالها على عبادات أخرى كالسجود، يدل على ذلك أن معناها لغةً الدعاء.
ولذا لم يكن دعاء غير الله جائز في أي شريعة من الشرائع، بينما كان السجود لغير الله تعالى جائزاً على وجه الاحترام والتقدير لا على وجه العبادة؛ {وَرَفَعَ أَبَوَیۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّوا۟ لَهُۥ سُجَّدࣰاۖ(100)}، سورة يوسف، وكان السجود لآدم واجباً على وجه طاعة الله تعالى وعبادته: {وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ (34)}، سورة البقرة.
دعاء العبادة ودعاء المسألة
تقسيم بعض العلماء الدعاء إلى دعاء عبادة ودعاء مسألة لا يتعارض مع ما سبق تقريره، فقد قصدوا بدعاء العبادة ما ورد في نصوص الشرع من إطلاق الدعاء على العبادة، فهم لا ينازعون في أن دعاء المسألة عبادة، بل إطلاق الدعاء على العبادة يدل على أنَّ دعاء المسألة أعظم أنواع العبادة كما سبق.
يدل على ذلك ورود آية صريحة في دعاء المسألة فيها تسمية دعاء غير الله تعالى دعاء مسألة اتخاذ آلهة مع الله، وهي قول الله تعالى: {أَمَّن یُجِیبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَیَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَاۤءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِیلࣰا مَّا تَذَكَّرُونَ (62)}، سورة النمل.
الشرك في الدعاء
وسمى الله جل ثناؤه كذلك دعاء غيره شركاً، فقال: {قُلۡ إِنَّمَاۤ أَدۡعُوا۟ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِهِۦۤ أَحَدࣰا (20)}، سورة الجن، وقال: {إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا یَسۡمَعُوا۟ دُعَاۤءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُوا۟ مَا ٱسۡتَجَابُوا۟ لَكُمۡۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا یُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِیرࣲ(14)}، سورة فاطر، وقال: {قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ (40) بَلۡ إِیَّاهُ تَدۡعُونَ فَیَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَیۡهِ إِن شَاۤءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ (41)}، سورة الأنعام.
ومن بيان أن أعظم شرك في العبادة هو أن يُدعى مع  الله غيره؛ تسمية الشرك دعاءاً وكأنَّ حقيقة الشرك هي دعاء غير الله، قال تعالى ذكره: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا ۚ كَذَ‌ٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)}، سورة غافر، وقال: {وَإِذَا رَءَا ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ شُرَكَاۤءَهُمۡ قَالُوا۟ رَبَّنَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ شُرَكَاۤؤُنَا ٱلَّذِینَ كُنَّا نَدۡعُوا۟ مِن دُونِكَۖ فَأَلۡقَوۡا۟ إِلَیۡهِمُ ٱلۡقَوۡلَ إِنَّكُمۡ لَكَـٰذِبُونَ (86)}، سورة النحل.
ومن بيان أن أعظم شرك في العبادة هو أن يُدعى مع  الله غيره؛ تسمية من يُدعى من دون الله إلهاً، والإله هو المعبود، قال تعالى ذكرُهُ: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)}، سورة المؤمنون، وقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ (68)}، سورة الفرقان، وقال: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)}، سورة الشعراء، وقال: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ (88)}، سورة القصص، وقال: {لَن نَّدۡعُوَا۟ مِن دُونِهِۦۤ إِلَـٰهࣰاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَاۤ إِذࣰا شَطَطًا (14)}، سورة الكهف، وقال: {أَمَّن یُجِیبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَیَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَاۤءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِیلࣰا مَّا تَذَكَّرُونَ (62)}، سورة النمل، ومن ذلك وصف الآلهة الباطلة بأنها من يدعوها المشركون من دون الله؛ {فَمَاۤ أَغۡنَتۡ عَنۡهُمۡ ءَالِهَتُهُمُ ٱلَّتِی یَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَیۡءࣲ (101)}، سورة هود.
العذر بالجهل في الشرك في الدعاء
نصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء تدل على أنَّ من الجهل ما لا يعذر صاحبه، وهو ما كان عن إعراض وتفريط، وتدل النصوص وأقوال العلماء كذلك على أن العذر بالجهل في المسائل الخفية آكد، وأن الظهور والخفاء يكون بحسب المسألة وحال الجاهل بها، فالمسائل التي تسمى المعلومة بالضرورة قد لا تخفى على من يعيش في أوساط المسلمين.
والمعلوم من الدين بالضرورة ينقسم إلى مسائل خبرية تعلم بالشرع فقط، ومسائل فطرية تعلم بالشرع والعقل والفطرة، وإقامة الحجة أيسر في المسائل الفطرية، ولكن جميعها لابد فيها من إقامة الحجة، فقدرة الله تعالى على إعادة الخلق تعلم بالشرع والعقل والفطرة ومع ذلك لم يعذب من شك في شيءٍ من كمال القدرة وإعادة خلقه بعد الموت.
والمسائل الفطرية تختلف أيضاً ظهوراً وخفاءاً، فمن شك في شيء من كمال قدرة الله تعالى ليس كمن أنكر خصوصيتها بأنها فوق قدرة المخلوقات أو أشرك فيها، وكذا من أنكر أصل المعاد ليس كمن شك في إعادة البعض فقط.
والشرك الأكبر الصريح دركات مختلفة، وأعني بالشرك الصريح ما لا احتمال فيه في ذاته، وليس من جهة الجهل والتأويل، ومثال ما فيه احتمال في ذاته؛ التبرك بآثار الصالحين لأنه محتمِل للشرك الأصغر والأكبر.
والدعاء من أوضح أنواع العبادة في الشرع والعقل والفطرة، فقد بين الشارع في آيات الكتاب الحكيم مسألة الدعاء أوضح بيان، والآيات في دعاء الله تعالى كثيرةٌ في القرآن، وإنما ذكرتُ منها فقط ما يدل على أن الدعاء أعظم عبادة وأن الشرك فيه أعظم شرك في العبادة وأن دعاء غير الله تعالى شرك، ودعاء الله تعالى وحده من أوضح المسائل في العقول والفطر.
ومن يدعو غير الله عز وجل مع اعتقاد النفع والضر في المدعو من دون الله تعالى، فقد نقض أصل الشهادتين، ولا فرق بينه وبين مشركي قريش، فيكفي في إقامة الحجة عليه بلوغها مع  تمكنه من فهمها، والتمكن من الفهم في هذه المسألة الواضحة يكفي فيه أن تبلغه على وجه يفهمها مثله.
وذلك لأن الأصل فيمن يدعو غير الله تعالى أنه مشرك في التدبير والعبادة، وأن دعواه التوسل مجرد جدل لا يعفيه من الشرك على التسليم بصحة دعواه، والشرك في التدبير شرك في الربوبية.
ولكن لا ينبغي تبديع من يرى أنه لا يكفي بلوغ الحجة في مسألة الدعاء، لوجود الشبه مثل أن دعاء المخلوق مجاز أو أن المُغيث لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله تعالى أو أن الله تعالى وكله في ذلك.
ولا ينبغي أن يختلف أهل العلم في أنه لا يعذر بالجهل في الأحكام الدنيوية من نقض مُجمل الإيمان كمن يعتقد أن كل ما في الكون هو الله، فهذا قد نقض مجمل الإيمان باللزوم الجلي البدهي، وخرج من الإسلام جملة وتفصيلاً، ولا فرق بينه وبين الكافر الأصلي، بل هو أشد كفراً من اليهودي والبوذي.
والعذر بالجهل آكد في غير الدعاء من مسائل شرك العبادة الأكبر الصريح، إذا كان معتقداً النفع والضر في المدعو من دون الله عز وجل، وهذا في تكفير المعين.
وأما في تكفير النوع؛ فدعاء غير الله شرك أكبر حتى مع عدم اعتقاد النفع والضر في المدعو من دون الله سبحانه وتعالى، فقد دلت النصوص وأقوال السلف على أن كثيراً من المشركين اتخذوا آلهتهم وسائط تشفع لهم عند الله في صلاح معاشهم وقضاء حاجاتهم، ومن يؤمن باليوم الآخر من مشركي أهل الكتاب يعتقد بعبادته غير الله أن معبوديهم يشفعون لهم يوم القيامة كما يشفعون لهم في صلاح معاشهم وقضاء حاجاتهم.
والدعاء مع عدم اعتقاد النفع والضر في غير الله عبادة لما فيه من تعظيم وتذلل لغير الله تعالى، وليس لأن الكفر مجرد حركات ظاهرة لا علاقة لها بالباطن كما يظن غلاة التكفير، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » لا إيمان إلا بصلاح القلب، ولا كفر إلا بفساده.
وأما ادعاء أن الله تعالى وكَّل بعض خلقه في قضاء حاجات وأن قضاءها لا يقع إلا بإذنه، فإنه لا يغير حقيقة أن دعاء غير الله شرك بيِّن بالشرع والفطرة والعقل.
أما دلالة العقل؛ فليُظهر الله تعالى خصوص قدرته وكمالها للناس؛ اختص نفسه بتدبير كثيرٍ من الأمور كإحياء الموتى والإتيان بالشمس من المشرق وشفاء المرضى، والفطرة تدل عليها، ومما جاء في الشرع قول الله تعالى ذكرُهُ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}.
فنسبة أمرٍ اختص الله تعالى به نفسه من أمور الخلق والملك والتدبير إلى المخلوق شرك في الربوبية والتشريع، ودعاء المخلوق في تدبير أمرٍ اختص الله تعالى به نفسه شرك في العبادة.
وأكثر ما يفعله العوام هو من الشرك الأصغر في الأصل أو الشرك الأكبر الذي هو من قبيل شرك الشفعاء والوسطاء، و مثال الشرك الأصغر؛ التبرك بالقبور، وتعليق التمائم والتي يظن كثير منهم أنها آيات من القرآن.
ومع أن التبرك بالقبور وتعليق التمائم ونحوهما قد تكون شركاً أكبر، إلا أنها من الشرك المحتمل للأصغر والأكبر، بخلاف دعاء غير الله فهو شرك أكبر صريح حتى مع عدم اعتقاد النفع والضر في المدعو من دون الله تعالى.
والأصل فيمن يدعو غير الله عز وجل اعتقاد النفع والضر في المدعو، ولا تقبل دعوى من ادعى خلاف ذلك إلا بالخطأ ونحوه، كمن قال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح، وكمن شبه عليه دعاة الشرك بالمجاز ونحوه ولم تقم عليه الحجة الرسالية.
وهذا من باب الاحتياط في تكفير المعين لورود الاحتمال من جهة الجهل والتأويل، فمجرد دعاء غير الله عز وجل شرك أكبر في العبادة بيِّن في الشرع، بل هو أقبح من السجود لغير الله، فأقبح وأشنع تأويل هو تأويل دعاء غير الله جل ثناؤه بأنه مجاز.
فإذا كان قول؛ "الزنى مكروه" مستقبح مع كونه صحيح لغة بنص القرآن، فمن باب أولى تأويل دعاء غير الله عز وجل بما لا يصح لغة، فقول الله تعالى ذكره: {كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء : 38]، يعود إلى المحرمات المذكورة في الآيات التي قبلها، ومنها الزنى.
ولو قال رجل من المسلمين: "الزنى مكروه"، لاستقبح قوله العوام قبل الخواص، وذلك سداً لذريعة سوء الفهم واضطراب معاني الألفاظ والمصطلحات، ودعاء غير الله عز وجل هو أغلظ شرك في العبادة، وهو أولى بسد ذرائعه.
وللمزيد حول العذر بالجهل يرجى الرجوع إلى هذا الرابط؛ مدونتي » إصلاح » الموجزُ اليسير حول شبهاتٍ في الجهاد والتكفير » العذر بالجهل ونسبة الفهم والعقل للقلوب والأذهان، وحبذا الرجوع كذلك إلى ما قبل هذا الرابط وما بعده مما يختص بمسائل التكفير.
الفعل والترك في الدعاء
قدمت الكلام عن عظم عبادة الدعاء على عظم قُبح الشرك في الدعاء لأنَّ جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، فإذا قيل لماذا قُدم النفي على الإقرار في شهادة ألا إله إلا الله، فالجواب؛ لعل سبب ذلك هو أن الفعل هنا لا قيمة له من غير الترك، لأن الشرك هو أن يُعبد الله ويُعبد معه غيره، فلا معنى لفعل عبادة الله من غير ترك عبادة غيره.
وقد ذكر  ابن تيمية رحمه الله تعالى أدلة كثيرة على هذه القاعدة في حوالي مائتي صفحة، ومما قال: (والشرك قد تقدَّم أن أصله ترك المأمور به من عبادة الله، واتباع رسله. وتحريم الحلال فيه ترك ما أمروا به من الاستعانة به على عبادته. ولما كان أصل المنهي عنه الذي فعلوه الشرك والتحريم روي في الحديث؛ (بعثت بالحنيفية السمحة)، فالحنيفية ضد الشرك، والسماحة ضد الحجر والتضييق) [4].
تفاوت دركات الشرك
الشرك أنواع أكبر وأصغر، وكل من الشرك الأكبر والأصغر دركات متفاوتة بعضها أعظم من بعض، والشرك الأكبر هو إشراك المخلوق الخالق في خاصة من خصائص الخالق سبحانه وتعالى، ويشمل ذلك الشرك في الربوبية والألوهية والصفات.
فمن الشرك في العبادة الشرك في الدعاء والسجود والذبح والنذر والمحبة والتوكل والإنابة.
وبعض أنواع الشرك ما هو أكبر بإطلاق مثل الشرك في الدعاء والذبح والسجود وتقريب القرابين لغير الله سبحانه وتعالى.
ومنها ما هو شرك أصغر بإطلاق كاعتماد المسلم على الأسباب المشروعة كالتي يعقل معناها وأثرها الحسي.
ومنها المحتمل للأصغر والأكبر ويتردد فيكون من الأصغر تارةً ومن الأكبر أخرى، مثل السحر وتعليق التمائم والحلف بغير الله والتداوي بما لا يُعقل له سبب حسي وليس له دليل شرعي.
ويكون السجود لغير الله شركاً أكبر إذا كان لمن يُعبد من دون الله ولم يكن من حديث عهد بالإسلام ونحوه بقصد الاحترام.
ومن الشرك المُحتمل للأكبر والأصغر؛ التبرك بما لم يُشرع التبرك به كالأتربة والأحجار والأشجار ولو كانت من آثار الأنبياء والصالحين.
وما صح التبرك به من آثار النبي صلى الله عليه وسلم هو مثل عرقه ووضوئه وثيابه في حياته، ولم يرد عن الصحابة رضي الله عنهم ولا خير القرون أنهم تبركوا بشجرة استظل بها النبي صلى الله عليه ولا تربة لامسها جسده الشريف.
وأقل ما يقال في عدم وجود  نقل عن السلف في التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته أنه إجماع ظني، وذلك لتوافر الدواعي لنقله ولعناية المُسلمين بنقل مسائل دينهم، والإجماع الظني يجب العمل به ما لم يخالف نصاً، فإذا خالف نصاً فهو إجماع متوهم.
والحق أنه إجماع قطعي لأن النصوص والآثار تعضده، ولأن قياس البركة بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته على آثاره في حياته قياس مع الفارق، لأن أصل البركة في آثاره في حياته هي في القرآن وذكر اسم الله تعالى، فقد كان يقرأ القرآن ويذكر الله تعالى في كل أحيانه، فسبب البركة هو امتزاج القرآن والذكر بآثاره.
ومما يرجى بركته بإذن الله تعالى النفث في البدن أو ماء ونحوه وصبه على البدن بعد الدعاء أو قراءة القرآن، وبلُّ التراب بالريق مع ذكر اسم الله تعالى، وأصل البركة هنا هي في القرآن وذكر اسم الله تعالى وليس في مجرد الماء والنفث ولا مزج التراب بالريق.
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما؛ (أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ كانَ إذا اشْتَكى الإنْسانُ الشَّيْءَ منه، أَوْ كانَتْ به قَرْحَةٌ، أَوْ جُرْحٌ، قالَ النبيُّ ﷺ بإصْبَعِهِ هَكَذا، وَوَضَعَ سُفْيانُ سَبّابَتَهُ بالأرْضِ، ثُمَّ رَفَعَها: باسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنا، برِيقَةِ بَعْضِنا، لِيُشْفى به سَقِيمُنا، بإذْنِ رَبِّنا. قالَ ابنُ أَبِي شيبَةَ: يُشْفى وقالَ زُهَيْرٌ لِيُشْفى سَقِيمُنا)، صحيح مسلم (٢١٩٤).
هذا، والله أعلم، وإن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأحد 13 شعبان 1440هـ، 16 يوليو 2019م
فمن الشرك

المراجع

[1] أخرجه البخاري ٧١، ومسلم ١٠٣٧ واللفظ له.
[2] صحيح البخاري (١٣٩٧) و صحيح مسلم (١٤).
[3] أخرجه أبو داود ١٤٧٩، وابن ماجة ٣٨٢٨، والترمذي ٢٩٦٩، وقال حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ٣٣٧٢.
[4] مجموع الفتاوى (ج20/ص114)، تحقيق؛ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق