حُكم الكذب للمصلحة الراجحة

السؤال؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 
شيخنا بارك الله فيكم وأحسن الله اليكم، امرأة تسأل تقول كان بين إخواني خصام وتقاطع وتدابر شديد، فقلت لهم؛ إني رأيت أمي فيما يرى النائم وهي بحالة بئيسة كأنها تنقم عليكم، قالت فتصالحوا، واصطلحوا وتواصلوا والحمد لله.
قالت ولكني كذبت شيخنا، فلم أر هذه الرؤيا في المنام أصلاً، قالت وتأولت جواز الكذب للإصلاح، فماذا علي؟ 
قالت؛ وكانت مدة خصامهم ست سنوات تقريباً، وكانت هناك محاولات كثيره للإصلاح لم تفلح، وهي الآن تخاف مما فعلت لما سمعت أن من أفرى الفرى أن يري المرء عينه ما لم تر.
الجواب؛ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وإليكم أحسن الله، وفيكم بارك.
عليها فقط التوبة والاستغفار، وهي متأولة على كل حال، وتأويلها سائغ، وذلك لأن مصلحة الإصلاح بين الناس لا سيما الإخوة والأرحام مصلحة ضرورية، والمتأول مغفور له.
والمقصود بحديث الكذب للإصلاح بين الناس هو تنمية الخير بالزيادة في الكلام أو قول "فلان يذكرك بخير ويريد الإصلاح" للطرفين، وأما ادعاء رؤيا صالحة؛ فالضرورة تقدر بقدرها ولا يجوز التوسع في فعل المحرمات، والرؤيا الصالحة جزءٌ من النبوة، فالكذب فيها عظيم.
ومصلحة الإصلاح بين الناس ضرورية، لأنها ترفع ضرر النزاع، وهو ضرر واقع.
فالمصالح الضرورية هي ما يترتب على فواتها ضرر، والحاجية هي ما يترتب على فواتها مشقة أو فوات ما لا غنى عنه من غير ضرر، والتحسينية هي المصالح التي لا يُفتقر إليها.
فكل ضرر تقابله مصلحة ضرورية، ولا يقابل المصلحة الحاجية ضرر.
وما ورد في الترخيص في الكذب في ثلاث فقد ورد إما عند الاضطرار في الكذب الصريح أو عند الاحتياج في الكذب غير الصريح.
فقد صح عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ وهو يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيراً وينمي خيراً، قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث؛ الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها)،  أخرجه البخاري (٢٦٩٢) مختصراً، ومسلم (٢٦٠٥).
والصحيح في الكذب هو أنه محرم لذاته لا لغيره، وهو من الأخلاق الذميمة التي تنفر منها الطباع السليمة، والجائز للحاجة هو التعريض والتأويل وليس الكذب الصريح.
والتعريض أو التأويل هو مثل أن تقول: "ما رأيتك" وأنت تقصد ما ضربت رئتك، لأن هذا من معانيها في اللغة.
وحتى جواز التعريض ليس بإطلاق القول بأنه "كلام قبيحه قبيح وحسنه حسن"، وذلك لأن الحاجة تقدر بقدرها كالضرورة، والأصل في المحرم لغيره أنه محرم كأكل الميتة ولكنه أقل حرمة فجاز للحاجة.
فلا دليل على ما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن الكذب كلام قبيحه قبيح وحسنه حسن وأن حكمه حسب المقصد منه، لأن ما كان كذلك هو المباح في الأصل، وهو المعني بقاعدة؛ "الوسائل لها أحكام المقاصد"، وما استدلوا به فيه إباحة الكذب لمصالح ضرورية والتعريض لمصالح حاجية.
والمحرم لذاته لا يباح إلا عند الاضطرار (الضرورة المُلجئة)، والضرورة فعولة من الضرر مثل شكورة.
فلا يباح محرم لذاته إلا لرفع ضرر (جلب مصلحة ضرورية) أو دفع ضرر (حفظ مصلحة ضرورية).
وأما المحرم لغيره فيجوز عند الاحتياج أيضاً (الحاجة المُلجئة).
سبق أن الإصلاح بين الناس مصلحة ضرورية، لأنها ترفع ضرر النزاع، وهو ضرر واقع.
وأما الكذب في الحرب؛ فلما فيه من حفظ مصالح ضرورية أهمها مصلحة الدين، والحرب أمارة فوات تلك المصالح.
وأما حديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها فيجوز في أمرين؛ الأول؛ الزيادة في الثناء على الحسن والجمال أو على العقل وتحمل المسؤولية، وهذا ليس كذباً صريحاً لعلم من يُثنى عليه غالباً بأن في الكلام مبالغة للمجاملة، فمن عادة الناس المبالغة أحياناً في الثناء لمقاصد حسنة، والثاني؛ الكذب عند وجود نزاع بين الزوجين أو توقع حدوث نزاع بأمارات تدل عليه، وهو داخل في الإصلاح بين الناس.
ويُشترط في فعل محرم لذاته أن يكون الضرر إما حالاً موجوداً أو له أمارات موجودة تدل على احتمال وقوعه بظن غالب أو يقين.
فالضرر الموجود يُرفع (تجلب مصلحة ضرورية مقابلة)، كالخصام والنزاع فهو ضرر حال موجود، والمصلحة الضرورية المقابلة هي مصلحة حسن العلاقة.
والضرر المخوف يُدفع (تحفظ مصلحة ضرورية مقابلة)، فالفتنة عن الدين تدفع بالكذب في الحرب، فالضرر المراد دفعه هنا هو الفتنة عن الدين والمصلحة الضرورية المقابلة المراد حفظها هي الدين، وأمارة حدوث الفتنة هي الحرب.
ويُشترط في فعل محرم لدفع ضرر (حفظ مصلحة ضرورية مقابلة)؛ وجود أمارات في الحال تدل على توقع الضرر (فوات المصلحة الضرورية) بيقين أو ظن غالب.
وذلك لقول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، والمخمصة هي الجوع الشديد، وهو الذي يُخشى أن يقع بسببه ضرر على الإنسان، ففي الآية دليل على اشتراط أن يكون للضرر المراد دفعه أمارات واقعة وليست متوقعة.
وللمزيد حول هذه الأحكام الاستثنائية وشروطها وما يتعلق بها من موازنات بين المصالح والمفاسد حبذا الرجوع إلى مبحث؛ الاضطرار والاحتياج والبلوى العامة.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق