بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اقتفى أثرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
المحتويات
١. تمهيد
١٢(١). من عيوب بعض النوابغ
١٢(٢). الكتابة والقراءة
١٣. ليس كل عالم مفكر
الناس أفراداً وشعوباً وقبائل وبطوناً تتنوع قدراتهم وتتفاوت، ويتنوع ذكاؤهم ووتفاوت أنواعه المختلفة.
وكثيراً ما يعتبر الناس تفاوت الذكاء والقدرات ويغفلون التنوع فيهما.
فمن أنواع الذكاء؛ الذكاء في العلم والمعرفة، والذكاء في التجارة، والذكاء في الصناعة، والذكاء في المعاملة.
والذكاء في كل من الأنواع السابقة قد يتنوع أيضاً.
ولأن بعض الخصال مشتركة، فإن القبائل والشعوب تتنوع في ذكائها وقدراتها كما يتنوع الأفراد.
ولله تعالى في هذا التنوع حكم بالغة، فمن فوائده تكامل الناس واحترام بعضهم بعضاً وتشاورهم في المشتركات والتخصصات والمميزات.
ومن تنوع الذكاء العلمي المعرفي؛ القدرة على الحفظ والفهم، فبعض الناس أقدر على الحفظ، وفي الحديث؛ (ورب حامل فقه ليس بفقيه)، والفقه في اللغة العربية معناه الفهم.
ومن الناس من يجمع بين القدرة العالية على الحفظ والفهم، والحفظ مهم جداً في بعض العلوم كالعلوم الشرعية، لأن المحفوظ فيها كالمعلومات (الداتا) المهمة في التحليل السليم، وأهم ذلك في العلوم الشرعية حفظ القرآن الكريم وعدد كبير جداً من الأحاديث النبوية.
أصول العلم في خمسمائة حديث، وتفاصيله في أربعة آلاف حديث، والزيادة تفيد في المعنى، لأن الأحاديث تروى بالمعنى.
ولهذا غالباً ما يتفوق في العلوم الشرعية الحافظ الذي عنده نقص فطري في الفهم ولكنه درس أصول الفقه (الفهم) وقواعده على قليل البضاعة من الحفظ خاصةً المتطفل على هذا العلم الذي لا يعرف الأصول والقواعد الفقهية.
وذلك لأنه لا يوجد إنسان يحفظ فقط كالكتاب ولا يفهم شيئاً، فالمقصود بنفي الفقه عن بعض الحفاظ أنهم ليسوا بدرجة الفقيه الذي يتفوق في الفقه، فمن درس أصول الفهم وقواعده وكان كثير الحفظ يتفوق على غير المختص في العلوم الشرعية الأقدر بالفطرة على الفهم.
فمن التنوع في كل قسم من الأقسام السابقة الذكاء العملي والذكاء النظري، ومن أعجب العجب في ذلك أن تجد من له قدرة فائقة في أن يكون مستشاراً في مجال التجارة والأشغال ومع ذلك تجده ضعيف القدرة على أن يكون تاجراً بنفسه أو صاحب أعمال تجارية.
وأذكر مثالاً لذلك؛ كان لي زميلان في هندسة الكمبيوتر في فنلندا، مصري وهندي، وكان الأخ الهندي أحد ذكاءاً وأكثر اجتهاداً، وكنت أحث زملائي على التجارة والاستثمار.
فبدأ الأخ الهندي في التجارة ثم الأخ المصري بعده، وكان الأخ المصري يقلد الأخ الهندي في أفكاره التجارية، وكان الأخ الهندي ذا قدرة عالية على التحليل التجاري والعلمي عموماً في كل المجالات.
ومع ذلك قلتُ لأحد الإخوة سينجح الأخ المصري في التجارة ويفشل الأخ الهندي، وهذا ما حدث، وذلك لملاحظات لاحظتها سأتجاوزها للاختصار.
وكان أستاذنا البريطاني الذي يدرسنا مواد التجارة والإدارة في كلية الهندسة ذا حظ متواضع جداً من المال والثروة، فمع أنه كان جيداً في تدريسه وكان يقدم خدمات استشارية لبعض الشركات إلا أنه لم يفكر يوماً أن يؤسس عملاً تجارياً وأظن أن قدرته على ذلك محدودة.
ومن العجيب - وليس عجيباً إذا عرفنا حكمة الباريء سبحانه وتعالى - أن تجد المهندس القدير يعمل طوال حياته لدى شركة تستفيد منه ضعف ما تعطيه مع أن بإمكانه أن يبدأ مشروعاً تجارياً هندسياً يستفيد منه أضعاف راتبه.
بل قد تستفيد بعض الشركات من شخص واحد مخترع عبقري في الهندسة أو من عدد قليل ممن في شعبة البحث والتطوير أكثر فوائدها التجارية.
وكثيراً ما تجد العبقري في الصناعة عموماً والاختراع والتطوير خصوصاً ذا حظ قليل لنقص ذكاء عنده في مجال التجارة قد لا يشعر به، وتجده مُسخراً لغيره ممن يحسب أنه أقل ذكاءاً منه.
ولكن كما قيل؛ إذا لم يوجد نظاف، فمن ينظف عيادة الطبيب؟ فالحكمة من تفاوت الناس في القدرات تسخير بعضهم لبعض حتى تستقيم الحياة.
قال الله تعالى ذكره: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف : ٣٢].
ومن الأكاديميين من يكتسب الخبرة التجارية مع الزمن، وكنت قد استمعت وثائقية خلصتُ منها إلى أن ستيف جوب كان ضعيفاً جداً في التفكير التجاري، ولكنه اكتسب قدرة قوية بعد سنوات عديدة من تأسيس شركة آبل.
ما من علم إلا وفيه أنواع من القدرات والذكاء، فثمة من يتميز في علم الهندسة في الجانب النظري بالتحصيل العلمي، ولكن ليس كل من كان قوياً في فهم الهندسة قوي في التصميم والتطوير فضلاً عن الاختراع.
فثمة فرق بين فهم الهندسة وتطور عمل هندسي متكامل، فمن يفهم الهندسة له قدرة تحصيل للعلم الهندسي، ومن يطور له قدرات هندسية تطبيقية وإنتاجية، ولهذه علاقة بالفرق بين ذكاء التحصيل العلمي وذكاء الإنتاج الفكري.
ولذا ففي الصناعة (الهندسة) ثمة من يصلح في شعبة الإنتاج كموظف أو كصاحب مشروع خاص، وثمة من يصلح في شعبة التطوير والبحوث أو إنشاء مشروع خاص متميز في التطوير والاختراع.
وكلمة صناعة أوضح من كلمة هندسة، لأن الهندسة تختص بالأشكال والأبعاد، ومن ذلك الهندسة التحليلية التي تختص بحساب كميات أبعاد الأشكال، ومن أمثلة مسائلها نظرية فيثاغورس التي تحسب بها أضلاع المثلث.
ولأن السابقين كابن تيمية والقرافي وابن خلدون رحمهم الله كانوا يقصدون بالهندسة الهندسة التحليلية.
وفي العلوم الإدارية ليس كل من له قدرة على تحصيل علم الإدارة قادر على الإدارة، فمثل هذا قد يصلح أن يكون مستشاراً لمدير ولا يصلح أن يكون مديراً بنفسه، فعند بعض الناس قدرات قيادية جبلية (كاريزما).
وللبيان أذكر مشاهدة متعلقة بالقدرات الإدارية من ناحية الكاريزما الإدارية، فعندما كنت في بنجلاديش تعرفت على أحد أحفاد علي دينار، وكان رجلاً طيباً متواضعاً، طويل القامة، يجلس ويتحدث رافعاً رأسه حتى ظن بعض الإخوة أنه متكبر، ولم يكن كذلك.
كان هذا الأخ مديراً لفرع جمعية قطر الخيرية في بنجلاديش، وعلمت من إخوة سودانيين كانوا قبلي في بنجلاديش أن فرع جمعية قطر الخيرية كان بأيدي بنجلاديشيين وأنهم كانوا فاسدين يأكلون أموال الجمعية.
وعلمت من الإخوة أن المكتب الرئيسي لجمعية قطر الخيرية أرسل عدداً من المدراء من جنسيات مختلفة لاستلام مكتبهم الفرعي في بنجلاديش فلم يفلح منهم أحد بسبب استشراء الفساد هناك بما في ذلك المكتب الحكومي للمنظمات غير الحكومية.
وعلمت من الإخوة أن الأخ حفيد علي دينار هو الوحيد الذي نجح في استلام المكتب الفرعي لجمعية قطر الخيرية.
وعلمت من الإخوة أنه لم يعرف أحد من الناس سبب وجود الأخ حفيد علي دينار في بنجلاديش لبضعة شهور بعد وصوله إليها، هذا رغم أنه كان يلتقي الناس ويتحدث معهم، وأنهم لم يعرفوا سبب وجوده إلا عندما جلس على كرسي المكتب الفرعي لجمعية قطر الخيرية في بنجلاديش.
هذا مع ملاحظة أنه لم يكن يعرف لغة أهل البلد، وأنه لم يستعن بأحد من الناس في مهمته، وكتمانه سر وجوده في بنجلاديش هو أحد أسباب نجاحه، الأمر الذي لا يصبر عليه كثيرون ممن تنقصهم الكاريزما الإدارية.
وهذه القصة قد تشير إلى أن شيوخ القبائل والأسر المالكة قد يتوارثون الكاريزما الإدارية.
ومن أسباب اختيار الانتخاب الدوري المفتوح في أطروحتي التشوقية هو عدم التخلي عمن فيه كاريزما إدارية مجربة.
ومن تنوع الذكاء العلمي المعرفي؛ الذكاء في الاكتساب العلمي والذكاء في الإنتاج الفكري.
والمساهمون بإساهمات جديدة قلة، ولهذا أسماؤهم معروفة كفيثاغورس قديماً، وانشتاين حديثاً.
فمن الناس من يكون قوياً جداً في اكتساب المعلومات حفظاً وفهماً وتحليلاً بفهم وقواعد غيره، ولكنه قد يكون ضعيفاً جداً في الإنتاج الفكري قواعداً وفروعاً.
ومن فيه ضعف في الإنتاج الفكري، فهو غالباً ما يكون ضعيفاً أيضاً في التحليل النقدي، فيكون أسيراً لأفكار الآخرين وتحليلاتهم، فإذا كانت قراءته لطرف واحد فإنه يظن أن الصواب فيما قرأ من تحليلات.
ولذا فليس كل من تفوق في تحصيل علمي أقوى من أقرانه في التحليل النقدي السليم لما يقرأ من أفكار، هذا إذا كان محايداً ولم يكن للأهواء ونزوات النفوس أثرٌ.
ومعرفة هذه الحقيقة تفيد النابغة في التحصيل الأكاديمي والعلمي عموماً فلا يغتر بنفسه ويسخر بغيره من أقرانه، وتفيد من دونه في التحصيل الأكاديمي حتى لا يُحبط معنوياً فيؤثر ذلك على أدائه فيما هو مسخر له.
وبمناسبة الإحباط في التنافس في التحصيل الأكاديمي، فقد قيل إن من أسباب تفوق تعليم الأساس في فنلندا أن برنامجها التعليمي ليس فيه منافسة، وفنلندا تعتبر الأولى عالمياً غالباً في التعليم الابتدائي.
ولم أقتنع أول الأمر بفكرة عدم المنافسة، وذلك لأن المنافسة الأكاديمية محفزة على الاجتهاد حسب تجربتي الشخصية، ثم تأملتُ فظهر لي أن المنافسة تحفز العشرة أو الخمسة الأوائل فقط في الفصل الدراسي، وتصيب البقية وهم الأكثر بالإحباط فتُميت فيهم قدراتهم الطبيعية.
وبما أن المنافسة بين البشر في جميع مجالات الحياة محفزة، فأرى قصر المنافسة في التحصيل الأكاديمي على المنافسة في الأداء أثناء الدرس النظري والعملي.
وذلك لأن المنافسة أثناء الدرس تُظهر المبرز في كل مجال من المجالات؛ كالرسم، والإلقاء، والحساب، والشعر، والفن، والتجارب المعملية، وكتابة التقارير، والبرمجة، فيكون فيها تحفيز لجميع التلاميذ كلٌ في مجال تفوقه.
وكما يتفاوت الأفراد في القدرات والذكاء، تتفاوت الشعوب والقبائل والبطون فيها كذلك.
ومما مر علي من ذلك في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة؛ أن أجود الناس في الخط العربي هم الآسيويون عموماً، وكان معنا زميل إندونيسي في كلية الشريعة يكتب أثناء المحاضرات بخط جميل ورسم هرمي بياني، وكأنه جلس ساعات بعد المحاضرة يكتب ويرسم، وكان كل الزملاء يصورون ملخصاته.
وهذا مثال فقط، وملاحظة تفوق الآسيويين في الخط العربي ليست ملاحظتي أنا لوحدي، فهي ملاحظة عدد كبيرٍ من طلاب المدينة من مختلف الدفعات والجنسيات، وكان بالجامعة ١٤٧ جنسية من كل القارات.
والشعوب الآسيوية تتميز بالفن التشكيلي والجمالي عموماً وليس فقط بالخط العربي، ولهذا نلاحظ جمال المباني في ماليزيا وسنغافورة.
وقدرة الشعوب الآسيوية على تقليد واستنساخ الأوراق الثبوتية راجع لقدرتهم الجمالية التشكيلية، وكل الناس كانوا يعرفون في السعودية أيام دراستي في المدينة قدرة الآسيويين على تزوير الإقامات.
وعندما كنت في بنجلاديش سألت الإخوة عما إذا كانوا يعرفون خياطاً جيداً يخيط "الجلاليب" السودانية، فضحكوا وقالوا لي اذهب لأي خياط وسلمه القماش "وجلابية" مثالاً!
وفي السوق لم أقبل الذهاب إلا لمن جربوه رغم تأكيدهم المخالف، لأنني تعودت في السودان على أن معظم الخياطين غير مهرة.
وخلافاً للخياط الآسيوي فإن الخياط السوداني الماهر قد يخيط على مزاجه بعد أن يجادلك في اختيارك، فقد يجادلك كثيراً إذا طلبت منه مثلاً أن يكون "الكُم" ضيقاً، وقد تتفاجأ عند استلامك "الجلابية" أنه قرر أن يكون "الكُم" وسطاً بين الضيق والواسع.
فهل يُصدق أنني عندما استلمت "جلابيتي" من الخياط البنجلاديشي وجدتها أفضل من "الجلابية" المثال.
ومن الطرف التي سمعتها من إخوة سودانيين في الهند أن أحدهم عندما استلم "جلابيته" من خياط هندي وجدها كما طلب تماماً كالمثال، ولكنه تفاجأ بوجود "حرقة سجارة" فيها، فغضب، فأخرج له الخياط "الجلابية" المثال، فإذا بها "حرقة سجارة".
ومما تمتاز به الشعوب الآسيوية والأوروبية الصناعة الهندسية تطبيقاً واختراعاً.
ولعل من أسباب ذلك؛ مشقة الحياة قديماً في آسيا وأوروبا، والحاجة أم الاختراع، وجينات الإنسان تتطور حسب نشاطه والبيئة، ولذا أصبحت القدرة على الاختراع والتطوير جزءاً من جينات الشعوب الآسيوية.
ومن أسباب ضعف العرب في الهندسة أنهم كانوا يذمون الصناعة ويرونها من المهن الوضيعة كما ذكر ذلك ابن خلدون رحمه الله تعالى، ولعل ذم العرب الصناعة راجع لضعفهم الفطري فيها.
ولا يظنن كل من هو قوي في فهم الهندسة أنه قوي في التصميم والتطوير الهندسي فضلاً عن الاختراع الهندسي، انظر؛ أنواع الذكاء الهندسي والإداري.
وبمناسبة الجينات الوراثية؛ مرة كنت في زيارة للسودان، فسألت أحد الإخوة الأطباء عن ملاحظتي بأن بعض الشعوب الإفريقية تميل إلى الدعة والراحة، وما قد يكون سبباً لذلك من الناحية الجينية؟ فقال لي البيئة مؤثرة، ومثل لذلك بزيادة في كرويات الدم البيضاء عند الأفارقة، وذكر أن سببها هو انتشار أمراض مدارية واستوائية كالملاريا، فأصبحت جزءاً من الجينات الإفريقية.
فالحياة في كثير من الدول الإفريقية سهلة بسبب توفر المراعي والأراضي الخصبة إضافة إلى العدد القليل من السكان، خلافاً لدول أخرى قد تتوفر فيها المراعي والأراضي الخصبة ولكن فيها انفجار سكاني ككثير من دول آسيا، أو البلاد الصحراوية والباردة التي تكون الحياة فيها شاقة.
ولي ولغيري من المشاهدات الكثيرة في بنجلاديش والهند ما يؤكد قدرتهم الهندسية المتميزة، ولكن كثيراً من أهل الخبرة والمعرفة والعلم في السودان لا يكتبون.
ولعل زهد السودانيين في الكتابة هو أحد الأسباب التي جعلت كثيراً منهم يتبنون آراء مرجوحة من خارج السودان، فمن يكتب يؤثر أكثر رغم أن من يستمع أكثر ممن يقرأ، وذلك لأن المتحدثين والخطباء ينقلون المكتوب.
وعوداً لمشاهدات الناس في آسيا التي تدل على قدرة الآسيويين الهندسية عموماً وعلى القدرة على الاختراع خصوصاً؛ أذكر مشاهدة واحدة للاختصار تتعلق بصهر الحديد.
من يعمل في صهر الحديد في بلادنا كنافخ الكير إما أن يحرق الثياب أو يجد منه صاحبه ريحاً منتنة كما ورد في الحديث النبوي الشريف حكاية للحال عند العرب كمثال للجليس الصالح والسوء لتقريب الفهم.
ومع ما في الطريقة العربية لصهر الحديث من أذىً؛ فإن فاعليتها في صهر الحديد قد تكون ضعيفة، وذلك لأنها في أبسط صورها تعتمد على "الهبابة" و النفخ بالفم.
وفي بنجلاديش رأيت عامل صهر الحديد يجلس على مسافة مترين تقريباً من النار والحديد، فلا يحرق ثيابه ولا يجد ريحاً منتنة، وفي يده حبل يمر بأكرة دوارة وينتهي بأنبوب قرب النار، فعندما يشد الحبل يمتليء الأنبوب بالهواء، وعندما يرسله يندفع الهواء بشدة لنفخ النار.
ولست بحاجة لذكر مشاهدات من أوروبا حول قدراتهم الهندسية، ولكن لاحظت أن طريقة مشيهم قد تكون راجعة لقدراتهم الهندسية، فترى الفنلندي مثلاً لا يتلفت أثناء مشيه، وعندما يدور فإنه يدور ٩٠ درجة كالآلة.
ومرة في فنلندا كنت بصدد قطع إشارة المشاة الحمراء لعدم وجود سيارة على مد البصر البعيد جداً يميناً وشمالاً، ولكني اضطررت أن أنتظر لدقائق بسبب أن كل الفنلنديين حولي كانوا بانتظار إشارة المشاة الخضراء.
وكان هذا في آخر التسعينات، فربما تغير الأمر حالياً، لأنني أذكر عندما انتقلت من فنلندا إلى السويد عام ٢٠١٠م؛ كنت أقول للأولاد: انظروا يخالفون النظام، لأن الأجانب في السويد أقدم، فأثروا في السويديين، فصار المشاة يقطعون طرق السيارات في غير منطقة مرور المشاة.
والشعوب العربية تتميز فطرياً في العلوم النظرية والجوانب النظرية من العلوم التطبيقية، ومعلوم تميزهم في الشعر والنثر، ولهذا كانت معجزة نبينا محمدﷺ من جنس قدرات العرب الطبيعية، وهي القرآن الذي تحدى الله عز وجل فيه العرب أن يأتوا بمثله.
ومن العلوم النظرية التي يتميز فيها العرب فطرياً؛ الإدراية، والسياسية، والقانونية، والحربية، ولكن الشعوب الأوروبية تفوقت حديثاً على العرب في هذه العلوم بالاهتمام بالبحوث والدراسات.
ولعل الشعوب الغربية تفوقت أيضاً من الناحية العملية في العلوم النظرية، فتمكنوا مثلاً من تطبيق الديمقراطية الفاسدة نظرياً بفساد وإدارة خفية، ربما لقدرتهم العملية في حل الأزمات، ومن عاش وسطهم علم أنهم يتحدثون قليلاً عن الإشكالات وكثيراً عن الحلول خلافاً لشعبنا السوداني.
وكل من تعامل مع الأوربيين ولو في عمل الفرق المدرسية والجامعية يلاحظ فيهم قلة التنظير مع كثرة العمل ووضع الخطط القابلة للتنفيذ، وليس مجرد الخطوط العملية العامة كما هو ملاحظ في كثير من أبناء شعبنا الكريم.
والفراسة العربية تدل على قدرة فائقة في علم النفس، وعلم الأنساب والقافة ومعرفة خصال الناس وقبائلهم تدل على قدرة في علم الاجتماع، وكتابات ابن خلدون رحمه الله تعالى تعتبر أساساً في علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة.
وأما إسهام المسلمين في علوم عملية كالرياضيات والفلك والزراعة والطب وهندسة البناء ونحوها مما نقلوا أساسه من اليونان؛ فربما كان أكثر المساهمين في هذه العلوم من المُسلمين الهنود والفرس.
وقد لاحظت تفوق العرب الجبلي الفطري في العلوم الأدبية من خلال الحديث والتعامل مع الناس بمختلف أعراقهم وجنسياتهم ومستوياتهم التعليمية، فلاحظت مقدرات إدارية عند أميين تفوق متعلمين من جنسيات أخرى.
وهذا لا ينفي تميز بعض القبائل العربية بجوانب عملية، فإن ما ورد من أن "الخلافة في قريش" قد يدل على أنهم متميزون في الإدارة عملياً وليس نظرياً فقط، وما ورد من أن "الحكم في الأنصار" قد يدل على قدرات فقهية قضائية وهي قدرات نظرية.
الضعف الجبلي في المتوسط العام هو سبب ولع المتفوقين في السويد وفنلندا بكلية القانون، وولع المتفوقين في البلاد العربية بكليات الطب والهندسة.
فكلما قل الشيء زاد التنافس عليه، والضعف الجبلي في علم معين هو الذي يجعل الأذكياء يتنافسون عليه لما فيه من إبراز قدراتهم وما فيه من فوائد مادية، وذلك لأن قلة العرض تؤدي إلى زيادة السعر والفائدة التجارية، ويقل العرض بقلة القادرين على عرضه.
والطب مضمون الوظيفة والتجارة لقلة الأطباء عموماً وأهمية الطب، والقانون كذلك مضمون الوظيفة والتجارة لقلة القانونيين في بعض الدول وأهمية القانون.
فالمبيعات إما سلع أو خدمات، والعيادة والمستشفى التجاري تجارة خدمات مضمونة العائد التجاري، وذلك لأن الصحة من ضرورات الحياة والتجارة فيها كالتجارة في المواد الغذائية والمطاعم التي هي من الضرورات أيضاً.
والقانوني يعمل في مجالات عديدة كالمحاماة ومكاتب الاستشارات القانونية والقضاء والمنظمات الحقوقية، ويمكنه فتح مكتب للاستشارات القانونية والمحاماة، فهي تجارة خدمات مضمونة العائد التجاري، وذلك لكثرة النزاعات والقضايا الحقوقية.
ففي دولنا لضعف أغلب الناس في الهندسة وربما الطب يقدمونهما، هذا إضافةً لضمان التوظيف وضمان عوائد التجارة، وفي الغرب يقدمون القانون لضعفهم الطبيعي فيه ولما فيه من ضمان توظيف وعوائد تجارية.
ومن الخطأ إعراض الأذكياء في بلادنا عن دراسة العلوم الأدبية عموماً، وخاصة السياسية والإدارية والاقتصادية والقانونية والإسلامية والعسكرية، لأن هؤلاء هم من يكونون قادة البلاد ومدراء الشركات وقادة العمل العام.
وكنت قد كتبتُ مقالاً لطلاب الثانويات قبل عشر سنوات لحث الأذكياء على تعلم العلوم الأدبية مع اعتبار القدرات والميولات، بعنوان؛ اختر التخصص المناسب لقدراتك.
سمعتُ متحدثاً خرج في مباشر يصرخ ويتحدث بهيجان محذراً من سياسة تعويم الجنيه في السودان، الأمر الذي لا أشاهده في دول شمال أوروبا.
ومما قال مخاطباً وزير المالية د. جبريل؛ أنت اقتصادي وأنا اقتصادي، ولا أدري لم نصدق اقتصادياً دون الآخر؟
وقد يؤثر الصراخ والهيجان في شعوب المناطق الحارة كالسودان.
وقد لاحظت أثناء معيشتي في دول شمال أوروبا أنهم يميلون إلى عدم اعتبار كلام من يتحدث بصراخ وهيجان.
وخصلة عدم اعتبار الصراخ والهيجان حميدة في شعوب شمال أوروبا، ولكن الاعتدال عزيز، فكثيراً ما يكون إلقاؤهم الخطابي ميتاً لا روح فيه بسبب ما عندهم من برود.
أذكر أن التقيت أخاً بريطانياً بنجلاديشياً في الأربعينات تربى في بريطانيا، وكنا مدعوان لإلقاء كلمات لأسر مسلمة في مدينة تروندهايم في النرويج، فقلت للأخ معلقاً على كلام أخ طبيب تركي الأصل: (كلامه ممتاز)، فقال لي: (نعم، ولكنه ليس جاداً)، فضحكتُ، وقلتُ له: (بل هو جاد ولكن يبدو لك أنه غير جاد بسبب طريقة الإلقاء، فهكذا إلقاء الاسكندافيين الخطابي، خلافاً للبريطان والأمريكان)، وكان الطبيب التركي قد قضى في النرويج خمسة عشر عاماً، فربما تأثر بطريقتهم لكثرة اختلاطه بهم بسبب طبيعة عمله، والأتراك فيهم شيءٌ من البرود الأوروبي.
فكثيراً ما يبدو من الإلقاء الخطابي لشعوب شمال أوروبا عدم الجدية بسبب التكلف في التواضع إضافةً إلى البرود في الخطاب.
وهذا لا يعني أن هذه الشعوب لا تتأثر بطريقة الخطابة كما يظن بعضٌ، فإن شعوب شمال أوروبا تستخدم تأثيرات نفسية كإيقاع الشعر وإيقاع الخلفيات الموسيقية المؤثرة بأنواعها كالحزينة والهادئة والصاخبة.
ومن أراد من الخطباء معرفة الفرق بين الصراخ ورفع الصوت وخفضه للتأثير النفسي المتوازن مع تأثير الحجة والبيان فليستمع للخطباء البارعين كالشيخ أبي زيد رحمه الله تعالى، وأهم سبب في قوة تأثير كلامه نفسياً وبيانياً وحجة وبرهاناً؛ كثرة تلاوته آيات الذكر الحكيم واستدلاله بها.
الأوربيون عموماً يتميزون بالتحكم في عواطفهم مقارنة بشعوب المناطق الحارة، ولعل من أسباب ذلك برودة الجو في مناطقهم.
ولو نظرنا في وصف عمرو بن العاص رضي الله عنه الأوروبيين (الرومان)، لعلمنا أن أكثر الخصال التي ذكرها تدور حول تحكمهم في عواطفهم.
قال المستورد بن شداد عند عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (تَقُومُ السّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النّاسِ)). فَقالَ له عَمْرٌو: (أبْصِرْ ما تَقُولُ)، قالَ: (أقُولُ ما سَمِعْتُ مِن رَسولِ اللهِ ﷺ)، قالَ: (لَئِنْ قُلْتَ ذلكَ، إنَّ فيهم لَخِصالًا أرْبَعًا: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ)، المصدر؛ صحيح مسلم (٢٨٩٨).
من عيوب بعض النوابغ ضعف القراءة والبحث، وذلك لثقتهم في قدراتهم وضعف تمرنهم على الجد والاجتهاد.
وهؤلاء غالباً ما تنقص عندهم المعلومات مع مرور السنوات، فإذا اجتمع مع ذلك ضعف نقدي وفكري نقص عندهم الفهم الصحيح والتحليل السليم والإبداع وصاروا تبعاً لغيرهم.
وغالباً ما يميل هؤلاء إلى التعلم عن طريق الحوار.
ومع أن العلماء ذكروا أن في المدارسة والمذاكرة فوائد لا توجد في الدرس والكتاب، إلا أنهم أكدوا على أهمية الدرس والكتاب، ونبهوا على حسن اختيار المدارسين.
والمذاكرة مفاعلة بين اثنين، وأما مراجعة الشخص الواحد فهي استذكار.
ومما لاحظته في بعض الأذكياء كثرة المقاطعة، وقد يكون ذلك لسرعة الفهم مع عدم الصبر على سماع ما يعرفون، وعدم ملاحظة أن الكلام قد يكون مجرد تذكير يقتضيه التسلسل والربط المنطقي العقلي.
ومرة اتصل علي شاب يسألني مسائل فقهية، وكان كثير المقاطعة فتوقعت أنه من الأذكياء، ثم قال لي أنه كان دائماً ما يكون أول دفعته.
في كلٍ من طرق التعلم الأربعة ميزات، وهي؛ الاستماع والقراءة والمدارسة والبحث، ولا يمكن الاستغناء بواحدة منها عن الأخرى.
قال الله تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: ١]، وقال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: ٤].
مدح الله جل ثناؤه القلم والكتابة مدح للقراءة، لأنه لا فائدة لما يكتب إذا لم يقرأ.
بعض الشعوب - ومنها شعبنا الكريم - تميل للاستماع أكثر من القراءة، ولعل هذا من أسباب ميل علماء بلدنا للإلقاء.
والمقصود المتوسط العام في كل شعب.
وفي المقابل بعض الشعوب لديها شغف بالقراءة كماً مما يؤثر على الكيف، وكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
وقد لاحظت أثناء دراستي في المدينة أن شعوباً معينة يكثر فيها تفريغ أشرطة الكاسيت الصوتية! علماً بأن التفريغ كان شاقاً لعدم وجود البرامج المساعدة وقتها، ويقصدون بالتفريغ تحويل النص المسموع إلى مكتوب.
في الاستماع المباشر لا سيما في المساجد بركة المكان والاجتماع وتعلم الأدب والتواضع، وفيه فائدة السؤال عما أشكل فهمه، وهذه الفوائد لا توجد في السماع من الأجهزة والذي تعرض فيه شواغل.
والكلام أيسر للمعلم لأنه أسرع من الكتابة.
وفي المدارسة والمذاكرة فائدة ما يسمى بالعصف الذهني، ولكن نبه العلماء على حسن اختيار المدارس، فيجب تجنب المتعالم والحسود والمعتد برأيه ومن لا يحسن الاستماع.
وفي القراءة فائدة يسر إعادة قراءة الجمل والفقرات، ويسر الرجوع لمواضع معينة، ويسر التعليق وكتابة الفوائد.
والقراءة أسرع من السماع.
قال النووي رحمه الله في فضل المدارسة: (ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أياماً وليكن في مذاكراته متحرياً الانصاف قاصداً الاستفادة أو الإفادة غير مترفع على صاحبه بقلبه ولا بكلامه ولا بغير ذلك من حاله مخاطباً له بالعبارة الجميلة اللينة) [١].
ومن فضل الكتابة على المشافهة أن المكتوب تستفيد منه أجيال وقرون عديدة، قاله ابن الجوزي رحمه الله.
ومن برز من العلماء قد يجد من يدون له علمه كما حدث للأئمة الأربعة، ومن المعاصرين الشيخ العثيمين الذي فرغت دروسه المسجلة ثم طبعت بعد أن راجعها.
وتدوين التلامذة قد يعتريه تعدد الروايات لتعدد فهمهم.
ومن ميزات الكتابة سهولة التعديل ومراجعة مواضع معينة، فهي أتقن وأدق.
ومن لا يقرأ يظل علمه محدوداً وفهمه أسير من يتلقى عنه، ولا يكتسب ملكة الاستنباط والاستخراج.
وكتب السلف والسابقين أبرك كما نص على ذلك أهل العلم، ففي كل جملة منها فوائد جمة ولو كانت مطولة.
وسبب ذلك تعلقهم بالنصوص وتأثرهم بها، والقرآن جوامع كلم، والنبي ﷺ أوتي جوامع الكلم.
ثم كثر الحشو مع التعقيد بسبب اختلاط العلوم بالمنطق اليوناني ثم العلوم الغربية في عصرنا.
وسبب التعقيد هو ما سبق من تأثر بالنصوص، فقد يسر الله تعالى القرآن للذكر، والنبي ﷺ كان يختار الأيسر حتى في البيان.
ومما فيه حشو وتعقيد؛ كثير من الرسائل الجامعية والمقالات المحكمة.
ومن أسباب الحشو فيها التكلف في اتباع قواعد مناهج البحث الحديثة، وهي قواعد مفيدة لولا التكلف والتطبيق الحرفي دون مراعاة لحال.
مثال ذلك التكلف في التعريف اللغوي حتى ولو كان بكلمة أقل شهرة ووضوحاً.
ومن ذلك التكلف في جعل التعريف جامعاً مانعاً عند عدم الحاجة لذلك [٢].
ومن ذلك التوسع في النقل لمجرد تكثير المراجع، ومثاله نقل تعريفات اصطلاحية كثيرة متقاربة في المعنى.
ومن ذلك التأثر بالكتب الأعجمية في كثرة الكلام.
فلا غنى لطالب العلم عن القراءة لا سيما كتب السلف والسابقين.
والله تعالى أعلم.
لمعرفة ما يستفاد من النابغة يلزم وصفه بما نبغ فيه دون زيادة ولا نقصان.
فمن الخطأ إطلاق كلمة مفكر على كل من نبغ في التحصيل العلمي الأكاديمي أو من نبغ في الجانب العملي (البراغماتي).
والبراغماتية كلمة لاتينية تعني العملية، من براغما بمعنى العمل، والعملية جيدة غير أن البراغماتية نظرية فاسدة، أساسها أنه لا يوجد تنظير إلا من خلال العمل، ولذا فإن من نتاج هذه النظرية أنَّ الغاية تبرر الوسيلة.
فمثلاً تسمية د. الترابي بالمفكر قد تكون غير دقيقة، وذلك لأن الملاحظ الذي سمعته من كثيرين أن كل ما اشتهر من أقواله منقول من كتب قديمة وحديثة بتعبيراته الخاصة.
وللترابي ذكاء عالٍ في فهم تحليل غيره إضافةً إلى أنه كان محباً للقراءة، هذا مع قدرة خاصة في التعبير عن الأقوال بعباراته ومصطلحاته الخاصة، إضافةً إلى قدرة خاصة على تعلم اللغات، والفهم قد يفسد بالميولات والرغبات والأهواء.
يدل على ذكاء الترابي العملي أن خطته أوصلت جماعته للسلطة، وكانت أول جماعة في نظرائها في العالم تصل للسلطة، إضافة إلى أنه استطاع أن يمتص الضربات ويستمر في السلطة، وتلاميذه تعلموا من عمليته فاستمروا ثلاثين سنة في السلطة رغم عظم الضغوطات والتحديات.
وقد استفاد حزب العدالة والتنمية التركي من عملية الترابي، ومرة سمعتُ الغنوشي يقول في محاضرة في فنلندا؛ استفدنا من الحركة الإسلامية في السودان، ولو قارنا موقف الغنوشي العقلاني العملي في تونس بنظرائه في مصر لرأينا تأثير عملية الترابي وتجربته في حزب النهضة التونسي.
مما يؤكد ضعف الترابي في الإنتاج الفكري أنه كان يريد أن يستنسخ النظام الديمقراطي الغربي في السودان كما هو، فقد كان مدركاً لأن الديمقراطية الحزبية لعبة قذرة، فكان يريد أن يطبقها بتحكم لوبٍ خفي كالصهيونية في الغرب، مع تقليص عدد الأحزاب إلى حزبين فقط، تماماً كما في الغرب، بحيث يتحكم اللوبي السري في الحزبين الكبيرين.
ولكن الترابي اصطدم بخلاف مع البشير، إضافة إلى أنه لم يتفكر في أن ظروف نشأة الأحزاب في السودان ليست مثل ظروف الغرب، وأن الظروف الدولية والإقليمية لا تساعد على تحقيق هدفه.
وما سبق ليس هو الزلة القاتلة الوحيدة للترابي في الجانب العملي الذي تميز به كذكاء فطري، فقد كان من أكبر أخطائه العملية تزعمه للمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي والذي ضم كل المعارضين والمناهضين للسياسة الغربية في المنطقة العربية، بمن فيهم قوميون عرب ومتطرفون.
وأذكر مرة جاء ذكر الترابي في مسألة إنكاره ليلة القدر، حيث قال ساخراً في لقاء في قناة الجزيرة: اليوم القمري ينقص أحد عشر يوماً كل سنة، وكلامه هذا لا قيمة له من الناحية الشرعية ولا من ناحية علوم الطبيعة والفيزياء.
فقلتُ: الترابي يجهل كثيراً من أساسيات وفروع العلوم الطبيعية الفيزيائية، ولذا ينكر ليلة القدر، والمعلوم أن تخصص الترابي كان في القانون، فهو تخصص بعيد عن علوم الطبيعة والفيزياء.
وقبل أن أشرح علمياً نسبية الزمن، وأن الترابي أخطأ خطأً علمياً بجعله الحساب الشمسي إطاراً مرجعياً لحساب الزمن، فإذا بي والحضور نسمع احتجاجاً شديد اللهجة يقول بأن الترابي كان أول الشهادة الثانوية السودانية، وأن الفرق بينه وبين الثاني كان كبيراً جداً، وأن السودان لم ير عبقرياً مثله منذ ما لا يقل عن مائتي سنة، وأن كل أسرته تعرف حدة ذكائه، وأنه كثير القراءة والاطلاع، وأنه قرأ في سجنه الأخير عشرات الكتب.
فقلتُ: أظن أن أكثر الكتب التي قرأها الترابي لغير المسلمين، ثم قرأت لقاءاً مع الترابي بعدها بشهر أو أكثر قال فيه أنه قرأ في سجنه الأخير عدداً كبيراً من الكتب الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
وقد شرحت نسبية الزمن باختصار في مقال؛ النسبية الشاملة تحت عنوان؛ النسبية الشاملة تحت عنوان؛ علة شمول النسبية.
ومرة سمعت الترابي يسخر من كتاب ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ "الإيمان"، وقال بأنه قرأه كاملاً، فيبدو لي أنه يقرأ بسرعة مع تجاوز لفقرات لا توافق ميوله ورغباته، فيبدو أن قدرته العملية تجعله يتجاوز ما يظن أنه نظري لا تأثير له في العمل من قضايا الإيمان.
ومن قرأ لابن تيمية رحمه الله تعالى عرف عبقريته واجتهاده وإنتاجه الفكري، وقد شهد له حتى بعض المستشرقين بنبوغه وعبقريته، فقراءة نقده لمنطق اليونان فقط تُظهر للقاريء تفوقه وقدرته على الإنتاج الفكري.
ولمعرفة قليل جداً من قدرة ابن تيمية رحمه الله تعالى الفكرية، أرجو قراءة مقال؛ حساب وقتي العشاء والفجر، والنظر في قوة تحليل ابن تيمية رحمه الله تعالى في مسألة الحساب الفلكي لأوقات الصلاة رغم خطئه في التحليل بسبب معلومات حديثة لم تكن متوفرة في وقته كما شرحتُ ذلك في المقال.
سبق أن من حكم التنوع؛ إفادة الناس بعضهم بعضاً، فلن يتكامل الناس ما لم يكن في كل فردٍ ميزات ونقائص.
ولله تعالى في خلقه وتدبيره حكم بالغة.
قال الله تعالى ذكرُه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: ٣٢].
ولأن بعض الخصال مشتركة، فإن لكل قبيلة وشعب مميزات ونقائص مثلما للأفراد.
فتكامل القبائل والشعوب من حكم تنوع ذكائهم وقدراتهم كما هو في الأفراد.
والتنوع في القدرات والذكاء كمالاً ونقصاً مع التفاوت فيهما يدفع الغرور واحتقار الآخرين ويحمل على التعاون وتوقير الآخرين والتشاور في المشتركات والميزات.
ومما يدفع الكبر والاعتداد بالرأي معرفة كل إنسان أن فيه نقائص.
ومما يدفع الحسد والشعور بالنقص معرفة كل إنسان أن له ميزات.
والنقص وميزات الآخرين تدفعان العصبية الجاهلية.
فالعصبية القبلية والشعوبية قد تكون بسبب تميز وازدراء الآخرين أو شعور بنقص وحسد.
قال الله جل ثناؤه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات : ١١].
والتنوع هو مصدر قوة الشعوب إذا أحسنت استغلاله.
فمن أسباب تقدم أمريكا ما فيها من تنوع، ولكل شعب فيها إسهاماته، بمن فيهم مهاجرون جدد، كالهنود.
فالشعوب التي فيها نقص في الإنجاب، فطنت لأهمية التعدد فحرصت على تنويع قدرات الأفراد والشعوب والقبائل المهاجرة إليها.
وعدد سكان أمريكا أكثر من ٣٠٠ مليون، ومع هذا فيها سياسة هجرة.
وسياسة الهجرة في أمريكا ليست عشوائية، بل فيها مراعاة للتنوع، ففيها حصص محددة للشعوب.
ويلاحظ أن الموارد الطبيعية موزعة مثل البشرية في الديار والأوطان ليتكامل الناس بالتجارة وتبادل المنافع، لا ليقتتلوا ويتحاربوا.
وكما لكل إنسان بصمات فيزيائية كما في بنانه وحباله الصوتية وجيناته، فلكلٍ بصمات نفسية وعقلية وروحية.
ولذا فإن لكل إنسان بصمة في الحياة، وكذا لكل قبيلة وكل شعب.
ولعل هذا هو السبب في أن موت العالم نقص في الأرض.
وقد يكون أساس الخصال الذميمة الفطري حميداً في الأفراد والقبائل والشعوب.
فالرحمة والندم الحاملين على ترك عقوبة المجرم خصلتان ذميمتان.
قال الله تعالى ذكرُه: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٢].
فمن يزعم أنه لا يستطيع ذبح دجاجة لا يلحظ أنه بهذا قد يسيء الظن بالرسول ﷺ الذي كان يذبح بنفسه ويأمر بأن يحد الذابح شفرته ويريح ذبيحته.
وقيل عن شخصية السايكوباث (تصنيف بمنظور نفسي) أنها ليست سيئة في أصلها الفطري.
والسايكوباث هي الشخصية التي فيها قسوة ونقص في الشعور بالذنب (الندم).
ومقاصد الأحكام والعقوبات الشرعية تدل على صحة هذا الكلام.
فالقسوة الطبيعية لا تعني انتفاء الرحمة، بل إن من يبدو قاسياً قد يكون أرحم ممن يبدو رحيماً.
وكذا نقص الشعور بالندم قد يكون صفة حسنة إذا وجه توجيهاً صحيحاً.
ونقص الشعور بالندم لا يعني انعدامه، ولا يستبعد أنه مجرد هروب من الندم لشدته عند هذه الشخصية، فقد يكون مجرد قدرة على التحكم في الندم (الثبات الانفعالي).
فقد يحتاج السايكوباث إلى رعاية خاصة ترشده إلى التوسط في الندم وعدم إرساله لدرجة محزنة مهلكة، فإن الحزن يضعف الطاقة، ولذا استعاذ منه رسول الله ﷺ.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الخميس ١٥ جمادى الآخرة ١٤٤٢هـ، ٢٨ يناير ٢٠٢١م.
لوند، السويد
الخميس ١٥ جمادى الآخرة ١٤٤٢هـ، ٢٨ يناير ٢٠٢١م.
جزاك الله خيراً يا شيخ وبارك فيك
ردحذفوإياك، وفيك بارك
حذفجزاك اللهُ خيراً وبارك فيك.
ردحذفوإياك، وفيك بارك الله.
حذفجزاك الله خيرا، مقال جميل وثري
ردحذفآمين، وإياك، وبارك الله فيك.
حذف