معظم النار من مستصغر الشرر

أضفتُ التالي بالعنوان السابق بتاريخ الإثنين ٢٨ شعبان ١٤٤٤هـ، الموافق ٢٠ مارس ٢٠٢٣م؛
ملخص؛ تهوين إقرار العلمانيين على علمنة البلد بدعوى أنها نازلة اجتهادية، وليس كل حادث اجتهاد ظني.
لأن معظم النار من مستصغر الشرر، وبسبب ملاحظة ما سبق ذكره فقد كتبتُ الملاحظات العشر التالية؛
أولاً؛ ليس غرض هذا المقال قراءة أمور خفية، فإن كان عدم التصريح بسبب لا يعلمه أكثر الناس، فإن الحوار باسم الجماعة بأغراض حسنة لازم، كإصلاح ذات البين واتقاء شر العلمانيين.
وقد تتضح الأمور عند توقيع الاتفاق النهائي المتوقع في أوائل أبريل.
ثانياً؛ لاحظت تهويناً من شأن إقرار العلمانيين على علمنة البلد في مؤثرين من منسوبي الجماعة، وذلك بادعاء أنها مسألة اجتهادية.
ثالثاً؛ أستبعد وصول علماني إلى قيادة الجماعة أو ارتداد أحد فيها إلى هذا الدرك.
ولكن الجماعة ليست معصومة من الدخلاء من المنافقين ومن في قلوبهم مرض دون النفاق لا سيما على مستوى القواعد وممن لم يعرف بسبق وفضل.
فقد تظاهر المنافقون بالإسلام في عهد الرسالة.
وقيل عن الجمعيات السرية اليهودية أنها وجدت قبل الرسالة الخاتمة لحماية أنفسهم من بطش الرومان، فربما كان بعض المنافقين ينتمون لجمعيات سرية منظمة.
والحذر واجب على كل حال.
ولكن كيد الكافرين لن يضرنا شيئاً إن صبرنا واتقينا الله، فإنه لم يضر المسلمين شيئاً في عهد الرسالة.
قال الله تعالى ذكره: ﴿إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط﴾ [آل عمران: ١٢۰].
وقد زعم أحد قدامى أنصار السنة أن من المقربين من قال: "العلمانية رحمة"! ولكنه لم يذكر قائليها وبمن علاقتهم، ولآخر مزاعم مشابهة.
فقد يكون قائلها ممن يجيز التقية بسبب التوسع في الموازنات، فبعض من فيهم مكر يتعمد الوقوع في خطأ ظاهر أمام خصمه ليوقعه في خطأ ثم ينكر أمام الملأ.
ومن فيهم برود يجيدون المكر، وصفة البرود موجودة في شعبنا رغم قلتها، وهي كثيرة في الرومان (الأوربيين) بسبب جوهم البارد، وأكثر ما وصفهم به عمرو بن العاص رضي الله عنه يرجع إلى برودهم، للمزيد؛ تنوع الذكاء والقدرات.
رابعاً؛ ليس كل أمر اجتهادي ظني، فحكم السجائر مثلاً قطعي، لثبوت ضرره قطعاً بالدراسات والتجارب البشرية، وبالتالي دخوله في عموم نصوص تحريم  الضار.
خامساً؛ مسائل العقيدة أضيق من المسائل العلمية، فمن المسائل العلمية ما لا يعد من العقيدة بمعناها الاصطلاحي كمسألة رؤية النبي ﷺ ربه في الدنيا، ومن دقيق فهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه سماها وأمثالها مسائل علمية.
فالمسائل العلمية أوسع من العقدية، ومن ذلك؛ كثير من مسائل علم رواية الحديث ومسائل السيرة.
ومسائل العقيدة أوسع من مسائل أركان الإيمان.
والتقسيمات متداخلة ولا يوجد الحد إلا في الأذهان، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فكل مسائل الفقه العملية يسبقها علم، وكثير منها مسائل عقدية، كوجوب الطهارة للصلاة، ووجوب الصلوات الخمس، والمسح على الخفين التي أوردها السلف في كتب العقيدة لمخالفة أهل البدع فيها.
وكتحريم الخروج على الأئمة المسلمين الحارسين لأصل الدين (الشهادتين والصلاة) وإن جاروا وأظهروا المنكرات التي دون ترك إقامة الصلاة في الناس، مثل عدم منع الزنا والخمور.
خامساً؛ بعض الأحكام العقلية يقينية، وهي تنقسم إلى قسمين؛ ضرورية (معلومة بداهة) كقاعدة أن الكل أكبر من الجزء، ونظرية (تعلم بالنظر والتأمل) كنظرية فيثاغورس، ومنها ما هو ظني.
ومن المسائل الحادثة ما يدخل في النصوص من جهة العموم كتحريم السجائر، وكحكم المظاهرات الثورية (التي تنادي بإسقاط النظام)، فالخروج السلمي على سلطة إسلامية مخالفٌ للنصوص التي دلت على وجوب الصبر على جور السلطان، وتحريم نقض البيعة، ونزع يدٍ من طاعة، ومنازعة السلطان الأمر ما أقام الصلاة وما لم نر كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
ودفع الأضر هو مقصد النهي عن الخروج، وأما علته التي يدور معها وجوداً وعدماً فهي كون الحاكم مسلماً مقيماً لأصل الدين (الشهادتين والصلاة).
وذلك مثل رفع المشقة مقصد لحكم جواز الفطر في نهار رمضان، والسفر والمرض علتان للحكم يدور معهما وجوداً وعدماً.
سادساً؛ إذا دل الشرع على جواز الاجتهاد في مسألة، فقد تدل الدراسات والتجارب البشرية على أن حكمها قطعي.
وقد ثبت بالعقل والتجارب البشرية المعاصرة أن السعي الحزبي للسلطة عبر الانقلابات وخوض المعترك السياسي الحزبي بداية انحراف، كما قال شيخنا الألباني رحمه الله تعالى، للمزيد؛ السعي الحزبي للسلطة.
ولكن لا يبدع كل من أخطأ في هذه المسألة، ولذا كتبتُ الفقرة التالية في مقال سابق؛
والسبب في إضرار هذا الملف في بداياته بالجماعة ليس مجرد آراء زعيمه، وإنما تعصبه لها واعتداده بآرائه والسخرية بمخالفها، بل ومحاربة كل من أبدى رأياً مخالفاً بطرق خفية ملتوية، وتمريره رأيه دون مشورة خواص الجماعة فيما يستشار فيه الخاصة ولا عوامها فيما يستشار فيه الخاصة والعامة.
سابعاً؛ وأما مسألة إقرار العلمانيين على علمنة السودان بحجة أنها مؤقتة فهي مخالفة واضحة لنهج الجماعة.
وذلك لأن مثل هذه التوقيعات السياسية تجعل الجماعة حزباً سياسياً.
فمجرد التوقيع سراً باسم الجماعة وإن لم يكن فيه إقرار على العلمانية - إذا لم يُرفع توقيع الخير النور - يعد خيانة للعهد العرفي المنطوق بأن الجماعة ليست حزباً سياسياً.
وسبق نقل تصريح رئيس الجماعة بأنه يقبل التوقيع إذا قبلت تعديلات اللجنة السياسية، وذكر منها توسيع المشاركة والتي تعني دخول الجماعة في محاصصات حزبية، إذ لا بأس بدعوة عامة لتوسيع المشاركة من غير توقيع المحاصصات.
وقد أقر شيخنا الهدية رحمه الله تعالى المشاركة الفردية، ولم يقر المشاركة باسم الجماعة.
لا بأس بالسرية في تنزيل نهج الجماعة في الحوارات واللقاءات، ولكن الوضوح في اتباع نهج الجماعة لازم.
ولا أحد في قيادة الجماعة يستطيع عقد تحالفات ولقاءات بدون اسم الجماعة وجهد منسوبيها، ولا أحد من المنسوبين يرضى استغلال اسمه فيما لا يرتضيه، ولذا لزم مع جواز السرية في أعيان الحوارات واللقاءات التزام نهج الجماعة أو إقناعها أولاً بنهج مخالف.
هذا إضافة لما في التوقيع - إذا مرر على الجماعة - من نشر تدريجي لمفاهيم مخالفة بين العوام من منسوبي الجماعة، وقد بدأت أمارات انتشار هذه المفاهيم تظهر في بعض الخواص من منسوبي الجماعة.
وقد علمت الأيام الماضية أن قيادات في الجماعة حضرت مراسم التوقيع النهائي على الوثيقة الدستورية في سنة ٢٠١٩م، ولا شك أن هذا الحضور إقرار بهذا التوقيع.
فإذا كان الحكام معذورين بسبب عدم القدرة، فإن واجب الناس معاونتهم لا معاونة العلمانيين عليهم بحضور مراسم التوقيع اللذي يوهم العوام بأنه جائز أصالة فضلاً عن الدخول في حلف فيه إقرار العلمانيين على علمنة البلد ولو مؤقتاً.
ولن تكون العلمنة مؤقتة وفقاً لشروط الإطاري، ولوجود منظمات مدنية وهمية ضمن الموقعين، وبسبب الوسيط الخارجي وغيره فإنها غالباً ما تكون تابعة لعلمانيين، وبهذا تغلب اليسار في حكم البلد على الأحزاب الكبيرة بموجب الوثيقة الدستورية.
بل الاتفاق الحالي أخطر لأنه يمكن المدنيين الموقعين، ويضعف قدرة الجيش على التأثير والتغيير، بمعنى جبرية مدنية (دكتاتورية مدنية)، ومع ما سبق تتضح الخطورة [١] .
وقد نسبت مصادر أخبارية لمحمد أبوزيد مطالبة بمساواة الموقعين في لقاء مع السفير البريطاني في مباني المركز العام! ولم أطلع على نفي للخبر، مما قد يشير إلى جهله بتلاعب العلمانيين مع الأجنبي الداعم لهم.
ولا عذر للحاكم المسلم إذا ترك تحكيم الشريعة لمجرد حب البقاء في السلطة ونحوه من حظوظ النفس، ولكن عدم عذره لا يقتضي تكفيره.
وأما غير القادر حقاً فهو معذور في عدم تحكيمه أحكام الشريعة، وسبق نقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية عن النجاشي رحمهما الله تعالى: (ونحن نعلم قطعاً أنَّه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، واللهُ قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل اللهُ إليه، وحذَّره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل اللهُ إليه)، وقال أيضاً: (والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإنَّ قومه لا يقرُّونه على ذلك) [٢].
ولا شك في أن إقرار العلمانيين على علمنة السودان بالطريقة الحزبية باطل، وحجج من نحو أن العلمنة مؤقتة، وعدم ترك الساحة للعلمانيين، وأنه أمر واقع؛ كلها حجج واهية كما سبق.
بل إن إقرار العلمانيين على علمنة البلد بهذه الطريقة يعد مخالفة عقدية، فالمخالفات العقدية ليست جميعها من قبيل الكفر البين والكفر المحتمل أو الشرك البين والشرك المحتمل، وسبق ذكر أمثلة.
بل إن حكمه يصل إلى الكفر المحتمل للأصغر والأكبر، فهو كما سبق مثل التبرك بآثار الصالحين، وتعليق التمائم، والحلف بالمخلوق، فهذه الأفعال كما نعلم ليست شركاً بيناً، فهي محتملة للشرك الأصغر والأكبر، وتقدم كذلك أن الشرك المحتمل هو أقرب الطرق المؤدية للشرك الأكبر.
وإذا كانت الجماعة تحارب ما هو أقل من التبرك بآثار الصالحين من وسائل الشرك كالبناء على القبور، فمن باب أولى الشرك المحتمل.
وعند التعيين لابد من توفر الشروط وانتفاء الموانع، فلا يقال في كل من فعل الكفر المحتمل أنه كفر كفراً إما أصغر أو أكبر، فالجاهل مثلاً معذور.
ومما يدل على أن إقرار العلمانيين على علمنة بلد مسلم كفر محتمل بعد النصوص؛ اعتبار كثير من العلماء التقنين العام كفر، ولكن الخطأ في عدم ضبطه بأنه ليس كفراً بيناً.
ومما قد يدل على أن العلماء قصدوا الكفر المحتمل بإطلاقهم على التقنين العام المخالف للشريعة أنه كفر؛ أنهم لم يكفروا به من لا يخفى أنهم متمكنون من إقامة الحجة عليه.
وذلك لأنه لا سبيل لتكفير معين بالكفر المحتمل والشرك المحتمل بمجرد إقامة الحجة، بل يشترط أن يصرح بعقيدته كاستحلال عمله واتخاذه ديناً أو فكراً ونهجاً صالحاً، فحكمه حكم مرتكب الكبيرة.
ثامناً؛ معلوم فضل رئيس الجماعة، ولكن لا يخفى أنه يمكن صاحبه من نشر أفكاره في الجماعة، وهي مخالفة للنهج الصحيح الذي أسست عليه ولا تزال مستمسكة به.
ولأن موضوع رئاسة الجماعة متعلق بأساسي الجماعة، فقد لا يمكن حل إشكالاته في أقل من ٥ سنوات، ولكن لابد من المضي في هذا الطريق، لأن الرئاسة العامة هي موجه الجماعة وممثلها.
وقد هال من رباهم حزبيون سياسيون على أن رئيس الجماعة خط أحمر أنني أعلنت تجاوز مثل هذه الحزبية التي أدخلوها في جماعتنا المباركة.
 فقد أرسل إلي بضعة نفر ممن تربى على هذا النهج في الخاص يشتمني، وهذا عندما أخبرت بعض الإخوة أنني أرى أنه يجب استبدال الرئيس العام الحالي للجماعة.
وهذه الجماعة المباركة ربت منسوبيها على أنه لا يوجد من هو فوق الدعوة، أو بتعبير مشايخنا؛ "الدعوة دي ما فيها كبير" بالعامية، بمعنى أنه لا يوجد كبير على الدعوة، فمؤكد أنه يوجد كبير في الدعوة بالمعنى الفصيح.
وربما يكون سبب حنق بعض الناس علي هو أن اعتدال الرئيس العام أو إبعاده عن رئاسة الجماعة يهدم خططهم التي عملوا لها لعشرات السنين.
تاسعاً؛ البيان لازم دفاعاً عن الجماعة ومنسوبيها، وذلك لأن التدليس الذي لا يخفى يشوه سمعة الجماعة ومنسوبيها، وحفاظ المصلحين على عرضهم وسمعتهم واجب، فبدون السمعة الحسنة لا تسود الدعوة.
وسكوت أهل العلم يؤدي إلى الانحراف التدريجي في منسوبي الجماعة، وهو ما بدأت آثاره تظهر.
واهتمامي بأمر الجماعة نابع عن حب لها، فأنا ولله الحمد أحب وأوالي كل الجماعات السلفية في السودان، وأنتسب لمجموعة السجانة.
وفي الانتساب زيادة محبة، ولكن يجب أن تكون محبة الأفراد بحسب صفاتهم لا بانتسابهم.
والعكس في الموقف من الجماعات البدعية والمنتسبين إليها، كالإخوان المسلمين، فيجب على السلفي البراءة منها براءة دون البراءة ممن بدعتهم أغلظ ودون البراءة من الكفار، ولكن الموقف ممن انتسب إليها بحسبه، فثمة من انخدع بهذه الجماعات فانتسب إليها إحساناً للظن بها.
عاشراً؛ أرجو ممن يهمه محاورتي في هذا الأمر قراءة هذا الكتيب قبل محاورتي.
وتلك عشرة كاملة.
حمى الله تعالى جماعتنا المباركة والسلفيين خاصة، وبلادنا وشعبها المسلم عامة من كل شر ومن مكر الأعداء وشقاق الأعضاء، وجعلنا جميعاً مفاتيح للخير مغاليق للشر.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الإثنين ٢٨ شعبان ١٤٤٤هـ، الموافق ٢٠ مارس ٢٠٢٣م

مصادر وملاحق

[١] للمزيد؛ القراءة صحيحة نظرياً خطأ واقعياً.
[٢] مجموع الفتاوى (ج١٩/ص٢١٨)
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق