تقويم أم قتل الانتماء للشعب؟

رأيت مقالاً أظن أن أصله كان يصف كل العرب، فتم تغيير عنوانه ليخص السودانيين.
ولم يذكر المقال إلا صفات ذميمة وعممها!
والنقد بهذه الطريقة قد يراد به شر، فحذار من الزنادقة والمنافقين والعملاء، فهم يريدون تعظيم أوليائهم بتنقيص قدرنا وإضعاف الولاء لديننا بإضعاف انتمائنا لشعبنا ووطننا، وهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
والولاء عند الإطلاق له معنى شرعي خاص، ولذا فرقت بينه وبين الانتماء.
فالولاء الشرعي هو؛ كل اقتراب معنوي أو حسي له أثر في الاستقامة على الدين أو نصرته [١].
وحب الدين مقدم على حب العشيرة، وهي رحم قريب، فضلاً عن الشعب، وهو رحم بعيد، بل هو مقدم على حب أقرب الناس كالأبناء.
وعشيرة الرجل هم أقرباؤه الذين يعاشرهم، ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾.
وحب الدين مقدم على حب المسكن فضلاً عن الوطن.
قال الله تعالى: ﴿قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾.
وبين الولاء للمسلمين والانتماء للشعب المسلم تلازم.
ولله در الشيخ ابن باديس رحمه الله الذي قال؛
شعب الجزائر مسلم   ...  وإلى العروبة ينتسب 
من قال حاد عن أصله ... أو قال مات فقد كذب
وابن باديس أمازيغي (بربري)، ولعله اعتبر ما للعرب الجزائريين من علاقة رحم بعيدة بالأمازيغ، فعد الجزائريين شعباً واحداً ونسبهم جميعاً للعرب. 
وهو مثل اعتبار النبي ﷺ أن للمصريين رحم لأنهم أرحام بعيدين لهاجر عليها السلام جدة بني إسماعيل.
ويعد الجزائريون ابن باديس رمزاً وطنياً.
وإذا كان النبي ﷺ قد أوصى بالمصريين قبل إسلامهم لرحمهم البعيد، فالشعب المسلم أولى.
فلننتبه إلى ما قد يراد بنقد الشعب السوداني المسلم بهذه الطريقة والتعميم.
وامتزاج الشعوب قد يجمع أميز خصالها الحسنة [٢]، وقد قال عرب وعجم عن الشعب السوداني بأنه تميز بخصال قل أن تجدها بتلك الدرجة في غيره.
ومن ذلك وصف سويدي كرم وضيافة السودانيين بأنه لا مثيل لها، سمعته يقول هذا في محاضرة في جامعة لينكشوبنج، وهو خبير بشؤون السودان، وكان يزوره باستمرار منذ منتصف السبعينات، هذا مع أنه كان متحيزاً ضد شمال السودان.
وإنما أشرت إلى بعض خصالنا الحسنة لمقابلة ما ذكر في المقال من خصال غير أصيلة، وليس للفخر.
فالفخر بالنسب محرم لما فيه من ازدراء الآخرين وإلقاء البغضاء بين الناس، ولأن الرجل بعمله لا بنسبه، فليس الفتى من يقول كان أبي ولكن الفتى من قال ها أنا ذا [٣].
وليس بين الله وبين خلقه نسب، وأكرمهم عنده أتقاهم، وكلنا لآدم، وآدم خلق من تراب، وفي غيرنا من الخصال الحسنة ما ليس فينا [٤].
ومما يزعجني من عادات ذميمة في شعبنا المزح بذم الأشخاص في حضرتهم.
فشعبنا يحب اللهو، ولا بأس به بحدوده، فقد قال رسول الله ﷺ: (يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو)، صحيح البخاري (٥١٦٢).
وغالب شعبنا لا يقصد بهذا المزح المستقبح غير الدعابة، ولكن من لا يقصد الذم فإنه قد يقصده عند الخلاف أو الحسد العارض.
والحسد العارض غير متمكن من النفس، وهو سريع الزوال، وقد قيل؛ ما خلا جسد من حسد.
هذا فضلاً عن أن "الشفاتة" يقصدون بهذا المزح العلو على من في طبعهم حياء وهدوء أو إنقاص قدرهم.
وقد ورد النهي عن السخرية بالدين مزاحاً سداً للذريعة.
وأقدم لطرفة بما يلي؛
السودانيون فيهم إباء قد ينقلب عناداً، ولا يحبون الأسماء الجديدة، وقد رفضوا تغيير اسم الجنيه إلى الدينار، ولعل السبب هو بغضهم حكم الإنقاذ.
وقد عرضت كلمة جديدة على عرب غير سودانيين فاستحسنوها جميعاً، واعترض عليها كل السودانيين، ولم تجد القبول عندهم إلا بعد أن ألفوها بكثرة التكرار.
والطرفة حكاها لي أخ عن جده يسأل عن مولودة بنته، "قال: سميتوها منو؟ قالوا ليهو: سميناها رانيا؟ قال ليهم: رغيفة؟"، فقلت للأخ مازحاً: "والله جدك ده مستهبل خلاص".
ثم رويتها لبعضٍ، فقال لي أحدهم: "حبوبتي سألت عن اسم بت محمد أخوي، قالوا ليها: شهد، قالت ليهم: شحدة؟".
وهذا ذكرني أخاً فاضلاً من قبيلة فيها إباء ظاهر، ظل يردد أن كلمة التشوَقة ثقيلة، وكنت أعرض عنه، فظل يقول التشوِقة بكسر الواو، وهي أثقل!
فالنحت على أصول اللغة أيسر، بل التخفيف هو غرض النحت، وهو على وزن فعللة.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الجمعة ٦ ذوالقعدة ١٤٤٤هـ، ٢٦ مايو ٢٠٢٣م

مصادر وملاحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق