لا أصالة للعنف في بعض قبائلنا

أكثر قبائلنا مسالمة طبعاً، والعنف في بعضٍ سببه الجهل مع قابليّة للعنف بسبب نقص جبلي في خصال حميدة، ولا تكامل بدون نقائص وميزات.
العنف في السودان إما طاريء أو وارد، فطبيعة غالب السودانيين المسالمة والمسامحة.
وقد ظهرت أقلام مأجورة وأخرى متهوّرة عجولة تثير النعرات القبليّة والشعوبيّة بسبب أخطاء تكررت من شعبٍ من شعوبنا السودانيّة.
وهدف الأعداء تقسيم أمّتنا السودانيّة بعد أن فشلت خطّة التبديل والإحلال.
بحجّة التخلّص من أسباب أزمة كان الأعداء والعملاء والمتهوّرون وقوداً لها!
أفلا نتعظ بدعم الجنوب حركات متمرّدة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق بعد انفصاله؟
وكنت ممن توقع ما حدث بعد انفصال الجنوب قبل انفصاله [١]، وذكرت من أسبابه؛ استغلال الفقر للتجنيد، والمطامع للتفريق، وانتشار السلاح لإثارة الحروب، وأنّ العدو الإسرائيلي يعلم أنّ استقرار ونمو أيّ دولة تنتمي شعوبها للأمّة المسلمة عامّة والعربيّة خاصّة مهدّد لوجوده العدواني [١].
ولا ينبغي إنكار حقيقة تكرر العنف من بعض قبائلنا، فهذا ممّا يساعد الأعداء والمتهوّرين في وصمنا بالجحود أو السطحية.
ولا سبيل لإنكار حقائق تاريخية متواترة تتناقلها الأجيال فضلاً عن حقائق حاضرة مشاهدة برؤية العين أو رؤية العلم بالنقل المتواتر.
فإبطال باطلهم يكون ببيان أنّهم يلبسون الحق بالباطل ويريدون باطلاً بكلمة الحق فيحرّفون المعاني.
لا أصالة للعنف في الناس.
فالعنف المشاهد في بعض القبائل هو بسبب الجهل مع القابليّة للعنف بسبب نقصٍ طبيعي في خصال قد تكون حميدة.
وبالمثال يتّضح المقال؛ فالرحمة والندم الحاملان على ترك عقوبة المجرم خصلتان ذميمتان.
قال الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فمن يفخر بأنّه لا يستطيع ذبح دجاجة قد لا يلحظ أنّه بهذا قد يسيء الظن بالرسول ﷺ الذي كان يذبح بنفسه برفق ورحمة، فقد أمر بأن يحدّ الذابح شفرته ويريح ذبيحته.
وقد قال المنظرون عن شخصيّة السايكوباث (تصنيف بمنظور نفسي) أنها ليست سيئة في أصلها الفطري.
والسايكوباث هي الشخصية التي فيها قسوة ونقص في الشعور بالذنب (الندم).
ومقاصد ومقاصد الأحكام والعقوبات الشرعية ودلالات النصوص والحس مع النظر والتأمل تدل على صحة هذا الكلام لهؤلاء المنظرين.
فالقسوة الطبيعية لا تعني انتفاء الرحمة، بل إن من يبدو قاسياً قد يكون أرحم ممن يبدو رحيماً، لتنوع الرحمة ومواضعها.
ونقص الشعور بالندم لا يعني انعدامه، ولا يستبعد أنه مجرد هروب من الندم لشدته عند هذه الشخصية، فإن الحزن يهد الطاقة، ولذا استعاذ منه رسول الله ﷺ.
فقد يكون لدى السايكوباث ضعف في القدرة على التحكم في الندم (الثبات الانفعالي).
فقد يحتاج السايكوباث إلى رعاية خاصة ترشده إلى التوسط في الندم بعدم إماتته في نفسه ولا إرساله لدرجة مهلكة.
ولا تكامل بدون نقائص وميزات في كلّ فرد وقبيلة وشعب وأمّة.
فمن ليس فيه نقص لا يحتاج إلى غيره، ومن ليست فيه ميزات لا يحتاج غيره إليه.
فلكل فرد بصمات فيزيائية تؤثّر في خصاله وسلوكه.
فكما توجد بصمات لكل فرد في بنانه وحباله الصوتيّة وجيناته، فلكلٍ بصمات نفسيّة وعقليّة.
ولذا فإنّ لكلّ إنسان بصمة في الحياة، ولذا كان موت العالم نقص في الأرض.
ولأن بعض الصفات الوراثيّة مشتركة، فإن لكل قبيلة وشعب وأمّة ميزات ونقائص مثلما للأفراد.
والتنوّع هو مصدر قوّة الأمم إذا أحسنت استغلاله.
فمن أسباب تقدم أمريكا ما فيها من تنوع، ولكل شعب فيها إسهاماته، بمن فيهم مهاجرون جدد، كالهنود.
وقد فطنت أمم فيها نقص في الإنجاب لأهمية التعدد فحرصت على تنويع قدرات الأفراد والشعوب والقبائل المهاجرة إليها.
وفي أمريكا سياسة هجرة مع أنّ عدد سكانها أكثر  من ٣٠٠ مليون.
وسياسة الهجرة في أمريكا ليست عشوائية، بل فيها مراعاة للتنوع، ففيها حصص محددة للشعوب.
ويلاحظ أن الموارد الطبيعية موزعة مثل البشرية في الديار والأوطان ليتكامل الناس بالتجارة وتبادل المنافع، لا ليقتتلوا ويتحاربوا.
والتنوع في القدرات والذكاء مع التفاوت فيهما كمالاً ونقصاً يدفع الغرور واحتقار الآخرين ويحمل على التعاون وتوقير الآخرين والتشاور في المشتركات والميزات [٢].
ومما يدفع الكبر والاعتداد بالرأي معرفة كل إنسان أن فيه نقائص.
ومما يدفع الحسد والشعور بالنقص معرفة كل إنسان أن له ميزات.
ومعرفة نقص وميزات الآخرين تدفع العصبية الجاهلية.
فالعصبيّة القبليّة والشعوبيّة قد تكون بسبب تميّزٍ في خصالٍ مع ازدراء الآخرين أو شعور بنقصٍ وحسد.
قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

العنف الطاريء 

في طبع معظم القبائل السودانية ميل للمسالمة والمسامحة.
وأذكر في انتخابات ما بعد نيفاشا أن قال لي أحد الإخوة؛ سيحدث عنف في الانتخابات، فهذا ما كانت تردده أحزاب قحت الحالية في الإعلام بمن فيهم من انفصل في الكتلة الديمقراطية، وكانت قحت تعرف وقتها بالتجمع.
 فقلت له؛ (بل لن يحدث عنف لأنه ليس من شيمنا، ولأن أحزاب الشمال التي استوردت العنف تركته، ولا أستبعد أن يحدث عنف من جنوبيين بسبب سيطرة الحزب الشيوعي على الحركة الشعبية، وهو حزب معروف بالعنف والتصفيات الجسدية وقتها).
وبعد الانتخابات قال لي الأخ وهو جراح عظام؛ صدق كلامك، فقد كان الذين يأتوننا في المستشفى للعلاج جنوبيون.
وأظن أن معظم قبائل الجنوب - إن لم يكن كلها - ليس فيها عنف بطبعها، فطبيعة الحياة السهلة الغنية بالموارد الطبيعية حيوانية ونباتية تمنع العنف والعدوان غالباً.
والقبائل السودانية التي فيها عنف أيام جاهليتها فيها خصال كريمة.
ولم أكن قبل الحرب أعرف شيئاً عن نسب شعب العطاوة (أولاد جنيد) المنتشر في إقليمي كردفان ودارفور غربي السودان.
وقد رأيت في قبائل هذا الشعب خصالاً حميدة، ففيهم من حسن الخلق والشجاعة والكرم ما قد لا تجد مثله في غيرهم.
وكل شعب من شعوب البشر فيه خصال حميدة نادرة [٣].
ويجتمع كل البشر في كونهم بني آدم، وقد جعلهم الله تعالى خلفاء الأرض.
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
والراجح في فضل البشر أنهم أفضل من الملائكة في الجنة، وأن الملائكة أفضل في الدنيا.
قال رسول الله ﷺ: (إنَّ الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعنَّ رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).
وطبيعي أن تتعدد خصالنا، فالسودانيون شعوب وقبائل متعددة بينها دم (رحم بعيد).
وقد وصى النبي ﷺ بالشعوب التي بينها رحم بعيد في قوله: (إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً)، رواه مسلم بلفظ مختلف.
وتجمعنا ذمة واحدة هي ميثاقنا الوطني المبني على الإسلام باختيار غالبنا وإن رغمت أنوف.
ونحن أمّة واحدة لأنّ لنا أهداف مشتركة، فالأمّة من أم الشيء إذا قصده، فالأمة هي التي لها مقاصد مشتركة.
ونحن قوميّة واحد، لأن لنا جوامع واحدة نقوم لها، فالقوم من القيام، فالقوم من لهم روابط جامعة يقومون لها.
ونحن تجمعنا روابط الدين والدم والذمّة والأوطان الحقيقية التي يضمها وطننا السياسي الذي هو ذمتنا.
وأظن في سبب اعتبار النسب من جهة الأب أنه مؤثر في الجوانب السلوكية، كصفة الهدوء.
والرحم من جهة الأم أولى بالصلة لأن الأم أولى بالصلة.
وأهم ما يجمعنا هو الدين، فمحبته في قلوبنا فوق محبة مساكننا فضلاً عن أوطاننا الحقيقية (بلد المولد والنشأة والعشيرة) ووطننا السياسي (ذمتنا)، وهو أحب إلينا من أبنائنا فضلاً عن قبائلنا وشعوبنا.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.

العنف الوارد 

أما العنف الوارد فقد زال بفضل الله تعالى.
وكان وروده بسبب أحزاب سياسية واردة، وهي؛ الحزب الشيوعي، وحزب البعث، وحزب الإخوان المسلمين.
وكانت تحدث تصفيات جسدية بين الشيوعيين والحركيين في الجامعات حتى عرف بعضٌ بالسيخ والعصي.
وليس في تاريخ الأحزاب السياسية التقليدية عنف في الجامعات، وما حدث من عنف فيها كان طارئاً أيضاً، كالذي حدث من التعايشي.
والمتصوفة ليس فيهم عنف غالباً، بل يسمي بعضهم الجهاد بالجهاد الأصغر، وإن كانت صفة غير مطّردة، فطالبان أفغانستان وأنصار المهدي متصوفة.
وليس في تاريخ أنصار السنة عنف، ولم يقابلوا العنف ضدهم بمثله.
والحركات المتمردة التي غزت الخرطوم لم يعرف عنها استهداف المواطنين العزل.
فعندما دخلت حركة خليل إبراهيم الخرطوم لم تعتدي على المواطنين العزل.
والجبهة الوطنية (المرتزقة) لم تروع المواطنين العزل، وهم أحزاب سياسية غزت الخرطوم من ليبيا، وكانت معارضة للنميري.
ومع اختلاف الدين فإن صلة جنوبيي السودان بالشماليين لم تنقطع، وبلغني أنهم رحبوا بفارين من الحرب الحالية.
وأخطاء بعض القادة والعامة كانت من أسباب انفصال الجنوب إضافة للأسباب الرئيسية، ولو ألف هؤلاء القادة قلوب غير المسلمين من الجنوبيين للإسلام لكان خيراً.
وقد قال لي جنوبي نصراني قبل اتفاقات نيفاشا - وكان عضواً في الجبهة الشعبية لتحرير السودان - قال لي بأن الجبهة الشعبية بقيادة جون غرنغ وجدت رفضاً للتمرد في بداياتها ولسنوات عديدة.
فقال؛ عندما كنا نذهب لقبائل في قرى الجنوب لنخبرهم بعداوة وعنصيرة الشماليين المسلمين العرب كانوا يكذبوننا بل ويحاربوننا، ويقولون لنا عبر رؤساء قبائلهم؛ لا نعرف عدواً غيركم، وأنتم تريدون خيراتنا وتجنيد أولادنا، وقال؛ لم يكونوا يعرفون شيئاً عن شمال السودان.
وقد كانت في العرب أخلاق حسنة قبل الإسلام.
وفي الأوربيين (الرومان) خصال حسنة ذكرها عمرو بن العاص رضي الله عنه.
قال المستورد بن شداد عند عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (سمعت رسول الله ﷺ يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله ﷺ. قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك) [٥].
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الجمعة ٦ ذوالقعدة ١٤٤٤هـ، ٢٦ مايو ٢٠٢٣م

مصادر وملاحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق