العنف طاريء ويزول

قومنا مسالمون بطبعهم، والعنف طاريء فيهم، وانتشاره أيام جاهلية بعض قبائلنا هو بسبب عدم ضبط خصالهم الطبيعية الحميدة بالتربية الإسلامية.
العنف في السودان إما طاريء أو وارد، فطبيعة غالب السودانيين المسالمة والمسامحة.
وأذكر في انتخابات ما بعد نيفاشا أن قال لي أحد الإخوة؛ سيحدث عنف في الانتخابات، فهذا ما كانت تردده أحزاب قحت الحالية في الإعلام بمن فيهم من انفصل في الكتلة الديمقراطية، وكانت قحت تعرف وقتها بالتجمع.
فقلت له؛ (بل لن يحدث عنف لأنه ليس من شيمنا، ولأن أحزاب الشمال التي استوردت العنف تركته، ولا أستبعد أن يحدث عنف من جنوبيين بسبب سيطرة الحزب الشيوعي على الحركة الشعبية، وهو حزب معروف بالعنف والتصفيات الجسدية وقتها).
وبعد الانتخابات قال لي الأخ وهو جراح عظام؛ صدق كلامك، فقد كان الذين يأتوننا في المستشفى للعلاج جنوبيون.
وأظن أن معظم قبائل الجنوب - إن لم يكن كلها - ليس فيها عنف بطبعها، فطبيعة الحياة السهلة الغنية بالموارد الطبيعية حيوانية ونباتية تمنع العنف والعدوان غالباً.
وقد سمعت أحد الضباط يثني على الجنوبيين خيراً في تعاملهم مع أسرى قواتنا المسلحة أيام التمرد الجنوبي.
وغالب قبائل إفريقيا ليس فيها عنف، ولكنه شديد فيها عند حدوثه.
وقد جعل الله تعالى لكل شعب وقبيلة وفرد خصلة حسنة مميزة في الأخلاق والقدرات [١].
وقد جعلنا الله تعالى شعوباً وقبائل لنتكامل بخصالنا وقدراتنا الفردية والمجتمعية، لا لنتعصب ونتباغض ونتحارب.
فلكل إنسان بمفرده بصمة في الحياة، وكذا لكل قبيلة وكل شعب.
فكما أن لكل إنسان بصمات فيزيائية كالتي في بنانه وحباله الصوتية وجيناته، فإن لكلٍ بصمات نفسية وعقلية وروحية.
ولعل هذا هو السبب في أن موت العالم نقص في الأرض.
وكما أن لكل فرد وفصيلة وفخذ وعشيرة وقبيلة وشعب خصال حميدة مميزة، فإن في كلٍ نقص.

العنف الطاريء 

القبائل السودانية التي فيها عنف أيام جاهليتها فيها خصال كريمة.
ولم أكن قبل الحرب أعرف شيئاً عن نسب شعب العطاوة (أولاد جنيد) المنتشر في إقليمي كردفان ودارفور غربي السودان.
وقد رأيت في قبائل هذا الشعب خصالاً حميدة، ففيهم من حسن الخلق والشجاعة والكرم ما قد لا تجد مثله في غيرهم.
والخصال الذميمة قد يكون أساسها الفطري حميداً.
فالرحمة والندم الحاملين على ترك عقوبة المجرم خصلتان ذميمتان.
قال الله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
فمن يزعم أنه لا يستطيع ذبح دجاجة لا يلحظ أنه بهذا قد يسيء الظن بالرسول ﷺ الذي كان يذبح بنفسه ويأمر بأن يحد الذابح شفرته ويريح ذبيحته.
وقيل عن شخصية السايكوباث (تصنيف بمنظور نفسي) أنها ليست سيئة في أصلها الفطري.
والسايكوباث هي الشخصية التي فيها قسوة ونقص في الشعور بالذنب (الندم).
ومقاصد الأحكام والعقوبات الشرعية تدل على صحة هذا الكلام.
فالقسوة الطبيعية لا تعني انتفاء الرحمة، بل إن من يبدو قاسياً قد يكون أرحم ممن يبدو رحيماً.
وكذا نقص الشعور بالندم قد يكون صفة حسنة إذا وجه توجيهاً صحيحاً.
ونقص الشعور بالندم لا يعني انعدامه، ولا يستبعد أنه مجرد هروب من الندم لشدته عند هذه الشخصية، فقد يكون مجرد قدرة على التحكم في الندم (الثبات الانفعالي).
فقد يحتاج السايكوباث إلى رعاية خاصة ترشده إلى التوسط في الندم وعدم إرساله لدرجة محزنة مهلكة، فإن الحزن يضعف الطاقة، ولذا استعاذ منه رسول الله ﷺ.
وقيل في بعض قبائل أولاد جنيد أن لها امتزاج بالبربر، وقيل عن بعض المنتشر منها في المغرب العربي وما جاوره أنها عائدة من أسبانيا بعد سقوط الأندلس.
والامتزاج قد يؤدي إلى التأثر بالأخوال والبيئة، فبعض الخصال مكتسبة كما أن بعضها جبلية.
والشعب البربري فيه رحمة، وفيه قسوة بدرجات متفاوتة في قبائلهم.
وقد وصف ابن خلدون رحمه الله ما ظهر من عنف في البربر أيام جاهليتهم.
وكل شعب من شعوب البشر فيه خصال حميدة نادرة [٢].
ويجتمع كل البشر في كونهم بني آدم، وقد جعلهم الله تعالى خلفاء الأرض.
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
والراجح في فضل البشر أنهم أفضل من الملائكة في الجنة، وأن الملائكة أفضل في الدنيا.
قال رسول الله ﷺ: (إنَّ الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعنَّ رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).
وطبيعي أن تتعدد خصالنا، فالسودانيون شعوب وقبائل متعددة بينها رحم.
وقد وصى النبي ﷺ بالشعوب التي بينها رحم في قوله: (إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً)، رواه مسلم بلفظ مختلف.
وتجمعنا ذمة واحدة هي ميثاقنا الوطني المبني على الإسلام باختيار غالبنا وإن رغمت أنوف.
فأهم ما يجمعنا هو الدين، فمحبته في قلوبنا فوق محبة مساكننا فضلاً عن أوطاننا الحقيقية (بلد المولد والنشأة والعشيرة) ووطننا السياسي (ذمتنا)، وهو أحب إلينا من أبنائنا فضلاً عن قبائلنا وشعوبنا.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.
وقوميتنا واحدة، لأن القوم لغة من القيام، فهم الجماعة من الناس التي لها جامعة يقومون لها.
ونحن تجمعنا روابط الدين والدم والذمة والأوطان الحقيقية التي يضمها وطننا السياسي الذي هو ذمتنا.
وأكثر قبائلنا مزيج عربي إفريقي، وإنما عد بعضها إفريقي والآخر عربي لأن النسب من جهة الأب [٣].
وأظن في سبب اعتبار النسب من جهة الأب أنه مؤثر في الجوانب السلوكية، كصفة الهدوء.
والرحم من جهة الأم أولى بالصلة لأن الأم أولى بالصلة.

العنف الوارد 

أما العنف الوارد فقد زال بفضل الله تعالى.
وكان وروده بسبب أحزاب سياسية واردة، وهي؛ الحزب الشيوعي، وحزب البعث، وحزب الإخوان المسلمين.
وكانت تحدث تصفيات جسدية بين الشيوعيين والحركيين في الجامعات حتى عرف بعضٌ بالسيخ والعصي.
وليس في تاريخ الأحزاب السياسية التقليدية عنف في الجامعات، وما حدث من عنف فيها كان طارئاً أيضاً، كالذي حدث من التعايشي.
والمتصوفة ليس فيهم عنف غالباً، بل يسمي بعضهم الجهاد بالجهاد الأصغر، وإن كانت صفة غير مطّردة، فطالبان أفغانستان وأنصار المهدي متصوفة.
وليس في تاريخ أنصار السنة عنف، ولم يقابلوا العنف ضدهم بمثله.
والحركات المتمردة التي غزت الخرطوم لم يعرف عنها استهداف المواطنين العزل.
فعندما دخلت حركة خليل إبراهيم الخرطوم لم تعتدي على المواطنين العزل.
والجبهة الوطنية (المرتزقة) لم تروع المواطنين العزل، وهم أحزاب سياسية غزت الخرطوم من ليبيا، وكانت معارضة للنميري.
ومع اختلاف الدين فإن صلة جنوبيي السودان بالشماليين لم تنقطع، وبلغني أنهم رحبوا بفارين من الحرب الحالية.
وأخطاء بعض القادة والعامة كانت من أسباب انفصال الجنوب إضافة للأسباب الرئيسية، ولو ألف هؤلاء القادة قلوب غير المسلمين من الجنوبيين للإسلام لكان خيراً.
وقد قال لي جنوبي نصراني قبل اتفاقات نيفاشا - وكان عضواً في الجبهة الشعبية لتحرير السودان - قال لي بأن الجبهة الشعبية بقيادة جون غرنغ وجدت رفضاً للتمرد في بداياتها ولسنوات عديدة.
فقال؛ عندما كنا نذهب لقبائل في قرى الجنوب لنخبرهم بعداوة وعنصيرة الشماليين المسلمين العرب كانوا يكذبوننا بل ويحاربوننا، ويقولون لنا عبر رؤساء قبائلهم؛ لا نعرف عدواً غيركم، وأنتم تريدون خيراتنا وتجنيد أولادنا، وقال؛ لم يكونوا يعرفون شيئاً عن شمال السودان.
وقد كانت في العرب أخلاق حسنة قبل الإسلام.
وفي الأوربيين (الرومان) خصال حسنة ذكرها عمرو بن العاص رضي الله عنه.
قال المستورد بن شداد عند عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (سمعت رسول الله ﷺ يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله ﷺ. قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك) [٤].
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الجمعة ٦ ذوالقعدة ١٤٤٤هـ، ٢٦ مايو ٢٠٢٣م

مصادر وملاحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق