حُرية الاختيار وأحكام العقوبات

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرية الاختيار هي أصل الخلق ومبدأ التكليف، هي أصل الخلق لأنَّ الله جل ثناؤُهُ جعل للإنسان القدرة على الاختيار، قال الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
وحُرية الاختيار هي مبدأ التكليف لأنَّ الله عز وجل خلق الإنسان للابتلاء والامتحان، ولو كان الإنسان مكرهاً لانتفى معنى الابتلاء والتكليف، قال الله عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}،أي لنبتليه.
والحُرية هي الأصل في العقيدة والتعبد والعقود مثل البيع والزواج وسائر التصرفات؛ {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}.
وللحرية ضوابط دل عليها الشرع والعقل والفطرة، فإن الناس جميعاً بمن فيهم الملاحدة يقرون بمسائل فطر الله الناس عليها، مثل الإقرار بأن القتل قبيح، وكذا الظلم والسرقة.
فلا أحد يجحد أن للحرية ضابط عام تتفرع عنه ضوابط، والضابط العام هو؛ ألا يكون فيها إضرار بالغير وتعدٍ على حقوقهم وحرياتهم، ومن التعدي على حقوق الآخرين والإضرار بهم نقض عهد وميثاق غدراً، ويتفرع على عدم الإضرار بالغير وحقوق الآخرين وحرياتهم تقديم المصالح العامة على الخاصة، ومما يدخل في تقديم مصلحة المجتمع والحفاظ عليه ألا يكون الضرر الخاص متعدياً للإضرار بالمجتمع ومصالحه كتعاطي المخدرات أو التعطل بغير عذر بلا دراسة ولا عمل.
أحكام العقوبات في الإسلام ليس فيها تعدٍ على الحريات الشخصية، فكل أحكام العقوبات في الإسلام داخلة في الضابط العام السابق وما يتفرع عنه من ضوابط الحرية المذكورة آنفاً، ولكن الناس يختلفون في كثير من تطبيقاتها وتفريعاتها، ولذا نجد اختلافاً في القوانين حتى في الدول العلمانية.
والعقوبات النصية محصورة، فالأصل في العقوبات التعزير والاجتهاد، والحدود المتفق عليها سبعة، وهي؛ القتل والقصاص في النفس والأطراف، والزنا، والحرابة، والردة، والسرقة، والقذف بالزنا، وشرب الخمر، وهذا يعني أن باقي العقوبات بعضها مختلف فيها وأكثرها تعزيرية اجتهادية.
بل الأصل في كل السياسة الشرعية الإرسال والإباحة، لأن السياسة الشرعية لحراسة الدين وسياسة الدنيا، والأصل في وسائل حراسة الدين الإرسال إلا لنص (مصالح مرسلة)، والأصل في سياسة الدنيا الإباحة إلا لنص.
وهذه القواعد كلها تندرج تحت قاعدتين، وهما؛ قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة إلا لنص، وقاعدة الأصل في وسائل العبادة الإرسال إلا لنص (مصالح مرسلة).
فالأشياء تشمل؛ الأعيان، والمعاملات، والعادات، والقضاء بما في ذلك أحكام العقوبات يدخل في باب المعاملات، ويدخل في المعاملات كل ما يختص بسياسة الدنيا.
وحرية الاختيار لا تناقض معنى عدم الخِيرة في قول الله تعالى ذكرُهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنࣲ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۤ أَمۡرًا أَن یَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلࣰا مُّبِینࣰا}.
فعدم الخيار في هذه الآية ينصرف أصالة إلى الخيار المتعلق بأمر الله الكوني القدري بتعذيب المُخالفين أمره بالعذاب الأخروي، وقد يعجل الله بعض أنواع العذاب في الدنيا.
فالمؤمن ملزم باتباع أمر الله تعالى شرعاً لا كوناً وقدراً، فإذا لم يلتزم بذلك فإنه متوعد بالعذاب الأخروي والدنيوي الكوني القدري.
وقد يكون العذاب بأيدي المؤمنين وحُكمهم القضائي ولكن بتفصيل يجعل الحكم القضائي والتعذيب منزهاً من الإكراه في الدين.
ويدخل في هذا الأمر السلطان المسلم والقاضي المسلم، فليس لهما خيار عند القدرة في تحكيم شرع الله تعالى بتفصيل ينزه حكمهم العقابي من الإكراه في الدين.
وليس في قتل الذمي الذي يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم إكراه، لأنه غدر بالعهد مع النظام الإسلامي وتترتب عليه أضرار نقض مثله من العهود على المجتمع المسلم.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا وسب نبينا، وهم يدرون أنا لا نعاهد ذمياً على مثل هذه الحال، فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة دعوى كاذبة)[1].
ولهذا قلتُ: وسب الذمي وشتمه النبي صلى الله عليه وسلم نقض للذمة في دولة إسلامية، ولا يعد ذلك غدراً في دولة تُغلِّب عقد المواطنة على الإسلام إلا إذا نصت قوانينها على قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك أنَّ أهل مكة سبوا النبي صلى الله ووصفوه بالمجنون وآذوه ولم يؤمر بقتلهم. انتهى، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح وتكميل » المُوجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير » الاغتيالات وقتل كعب بن الأشرف.
وأهل الذمة يعاملون حسب حالهم بالرفق أو الصغار، فإن كانوا يؤذون المسلمين فإن الجزية جزاءٌ على كفرهم وعدائهم، وإن كانوا ممن لا يظهر عداوةً فإن الجزية جزاء على رعاية المسلمين لهم وتؤخذ منهم رفقاً كما تؤخذ الزكاة من المسلمين، وتصرف في شؤون الدولة ومصالح الناس بمن فيهم أهل الذمة.
قال ابن تيمية رحمه الله: (فإن الجزية عند بعضهم عقوبة للمقام على الكفر، وعند بعضهم عوض عن حقن الدماء، وقد يقال أجرة سكنى الدار ممن لا يملك السكنى فليست عقوبة وجبت لقدر زائد على الكفر)[2].
وليس ثمة خرق للإجماع في قولي بأن للجزية علتين؛ جزاء محاربة المسلمين وأذاهم، وجزاء رعاية المسلمين لمن لم يؤذي المسلمين، فالأرجح جواز الإحداث بشرط عدم رفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين، وهذا القول لم يرفع ما اتفقت عليه أقوال السابقين، بل اعتبر جميعها، للمزيد؛ مدونتي » إصلاح وتكميل » المُوجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير » الصغار وجريان الأحكام على أهل الذمة.
وكذا سائر أحكام العقوبات في الإسلام ليست للإكراه، فأكثر الحُكومات تمنع الاتجار بالمخدرات وتعاطيها، ولا يعد ذلك تعد على الحرية الشخصية، وذلك لأنَّ ضرر تعاطيها يتعدى الفرد للمجتمع بتعطله عن العمل والإنتاج أو حمله على التعدي المباشر كالقتل والسرقة.
ولا يجوز التجسس على الناس في بيوتهم، وبالتالي فتعاطي المخدرات أو ظهور آثار تعاطيها يتعدى ضرره الخاص لإضرار المجتمع بنشر هذا السلوك المضر.
وإلزام أهل الذمة بأحكام الإسلام ليس إكراهاً، وذلك لأن إلزامهم مُختص بأحكام المُعاملات الدنيوية وليس بالشعائر التعبدية.
والشريعة جاءت لتحقيق مصالح البشر جميعاً، فالربا ضرر على المجتمعات مسلمة كانت أو غير مسلمة، وهكذا الخمر والزنا والفواحش وسائر المحرمات كلها ضرر على الناس في معاشهم قبل معادهم.
وإذا حكم المسلمون بلداً غالب أهلها غير مسلمين لزمهم عند القدرة تحكيم ما يتعلق بالمعاملات والأحكام الدنيوية من الشريعة فيهم. انتهى، نقلاً من مقال؛ الشريعة أجل من أن تعرض على البرلمان.
فسبب إجراء أحكام الإسلام على غير المسلمين في المعاملات هو دفع المضار عنهم وتحقيق مصالحهم، وذلك لأنه لا يجوز إلزام غير المسلمين بأحكام العبادات بما في ذلك الشهادتين والصلاة مع كونها أولى أولويات الحُكم بالإسلام، وتعلق ذلك بالقدرة هو لتغليب المصالح العامة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى؛ (فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة وتعذر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه، فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك)[3].
وكلام ابن القيم رحمه الله إنما هو في أهل ذمةٍ كانت تسري عليهم أحكام الإسلام ثم تمردوا عليها، فهؤلاء ليس في إلزامهم عند القدرة عليهم انتهازية.
وأما من عاهدهم المسلمون ابتداءاً على عدم إجراء أحكام الإسلام عليهم، فلا يُلزمون بها إلا إذا ظهرت منهم علامات الغدر، فيُنبذ حينئذ إليهم عهدهم ويخيروا بين البقاء في دار الإسلام والهجرة منها قبل إلزامهم بأحكام الإسلام.
وأما حكم الردة؛ فالراجح في قتل المرتد أنه يقتصر على المحارب والمُحرف للدين بزندقة أو تبديل لأحكام معلومة متواترة يكفر جاحدها، للمزيد؛ مدونتي » أحكام » حُكم المُرتد.
فقتل المرتد لا يخرج عن قاعدة أن من ضوابط الحرية عدم التعدي على حقوق الآخرين وعدم الإضرار بهم، فمن التعدي على حقوق الآخرين والإضرار بهم منافقتهم وغشهم وتحريف معاني نصوص كتبهم ونقض عهودهم غدراً.
والإسلام عهد مع الله سبحانه وتعالى أولاً ثم الجماعة المُسلمة ثانياً، ولذا كان الداخل في الإسلام يُبايِع عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ومن مقتضيات الإسلام الولاء فيه والبراء من مخالفيه، والولاء شرعاً هو كل اقتراب معنوي أو حسي له أثر في التدين أو نصرة الدين.
وإضرار الأمة لا يكون فقط بحمل السلاح، بل مجرد حمل السلاح أخف ضرراً من التجسس وتفريق الكلمة بتبديل المفاهيم الأساسية ومن ثم إثارة الفتن وإضعاف الولاء للأمة.
والقوة الداخلية أهم من موازين القوى الخارجية، ولا توجد قوة داخلية من غير ولاء ووحدة واستقرار سياسي وقوة اقتصادية، ولذا قدم الله تعالى ذكر جهاد المال على جهاد النفس، وذكر أن النزاع سبب الفشل، وأمر بالولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين.
وقد كان أثر الزنادقة والمبدلين للشرائع عبر التاريخ أسوأ من أثر الجيوش الغازية، بدءاً بالخروج على عثمان رضي الله عنه ثم تظاهر بعض الزنادقة بالتشيع لآل البيت مما انطلى على بعض محبي الإسلام وآل البيت.
وقول بعض السابقين بإكراه المرتد هو اجتهاد منهم ليس لهم فيه نص، ومن نقل الإجماع على إكراه المرتد من العلماء فلأنه ظن أن الإجماع منعقد على وجوب قتل كل مرتد، ومنهم من ظن بأن الإجماع منعقد على أن المُرتد يُكره إما بالقتل أو الحبس، والقول بأنَّ المرتد يُكره لأنه عرف الحق يُعارض بمن جحد الحق من الكفار الأصليين.
وليس كل ما نقل عن العُلماء والأئمة من خلاف معتبر، فمن الأئمة من يرى إكراه بعض الكفار الأصليين، ومنهم من يرى إكراههم جميعاً وأن الجزية تقبل فقط من أهل الكتاب لمصلحة إبقاء ما عندهم من كتب فيها بشارات، وهؤلاء يرون أن عدم الإكراه منسوخ، وكلها أقوال غير معتبرة، وللمزيد حول هذه المسائل؛ حُكم العهد المطلق، وسبب مشروعية الجهاد، وآيات السيف والبراءة.
وجهاد الطلب ليس فيه إكراه ولا تعد على حرية الآخرين، فالصحيح في جهاد الطلب أن علته مركبة من وصفين؛ الكفر وخوف الخيانة.
وخوف الخيانة يكون بظهور أماراتها لاحقاً أو بمُحاربة سابقة قبل قوة المُسلمين، وفي جهاد الطلب تخيير بين الإسلام والجزية والقتال.
من أدلة جزء العلة الثاني لجهاد الطلب قول الله تعالى ذكرُهُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.
والراجح في معنى الآية أنها تشمل كل من له عهد مؤقتاً كان أو مطلقاً، وتشمل أيضاً من لا عهد له باعتبار العهد العرفي لعموم كلمة قوم، ونبذ العهد هو الإعلام بإلغائه، والنبذ يُعرف اليوم بقطع العلاقات الدبلوماسية.
وأما سبب تشريع الجهاد بمعنى مقصده وحِكمته، فهو مَنْعُ عدوان الكفار وصدهم عن الدين والدعوة إليه.
يدل على ذلك النصوص التي تحرض المؤمنين على الجهاد معاملةً بالمثل؛ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ الله عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}.
للمزيد؛ مبحث سبب مشروعية الجهاد في رسالة الموجز اليسير حول شبهات في الجهاد والتكفير.
والله تعالى أعلم،  والحمد لله ربِّ العالمين.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند السويد
الخميس 25 جمادى الأول 1440هـ، 31 يناير 2019م.

المصادر

[1] الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 12، الطبعة السابقة.
[2]  الصارم المسلول (ص452)،  الطبعة السابقة.
[3] أحكام أهل الذمة (ج7/ص768)، تحقيق؛ البكري والعاروري، رمادى للنشر، الدمام، الطبعة الأولى.
pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق