لا يقر على علمنة بلد مسلم

أكبر دليل على أن جماعة أنصار السنة لم تقر العلمانيين على علمنة السودان هو أن ما نسب إليها من توقيع على الاتفاق الإطاري لم يُعلن بصفة رسمية، فالمنصف لا ينسب للجماعة ما تم إخفاءه عن قواعدها إذا ثبت، لأن الإخفاء يدل على استغلال اسمها في عمل لا ترضاه.
وثمة من أعلن التوقيع على الاتفاق الإطاري ممن لا يعتقد صحة العلمانية كحزب المؤتمر الشعبي، فالواجب على قواعدهم إعلان موقفهم من هذا التوقيع.
وأما جماعة أنصار السنة فإن إقرار العلمانيين وأشباههم على علمنة السودان ولو مؤقتاً لا يتفق مع منهجها، ولا ينبغي لمسلم أن يستغل لتمكين العلمانية.
ومن يقر العلمانيين على العلمانية وهو لا يعتقد صحة العلمانية لا يكفر لأنه مقر غيره عليها وليس مقراً بها، وإقرار الغير على الكفر ليس كفراً، فقد أجمع المسلمون على إقرار أهل الذمة على أديانهم المحرفة.
ولكن إقرار العلمانيين على العلمانية محرم ما داموا ينتسبون إلى الإسلام، سواء كان انتسابهم تظاهراً وهم من يطعنون في الدين، أو كان انتسابهم إلى أصله حقيقةً وهم الذين يطعنون في بعض شرائعه الظاهرة المتواترة.
فيحرم في الأصل إقرار مسلم أو زنديق على العلمانية، بل يقتل بالإجماع المرتد الزنديق والمحرف للدين، والمحارب قد يعاقب بما دون القتل كقطع يديه ورجليه من خلاف، وكنفيه من أرض قراره بحبس أو تشريد من وطنه [١].
وإقرار العلمانيين على علمنة بلاد المسلمين أسوأ وأقبح لمخالفته لما يدعيه العلمانيون أنفسهم من احترام خيار الشعب إضافة لمخالفته للواجب الشرعي.
ولا ينبغي الاستهانة بإقرار العلمانيين على العلمانية وعلى علمنة بلد مسلم بتصويت أو تحالف ونحوهما.
فإقرار العلمانيين على علمنة بلد مسلم كفر محتمل إذا لم يكن بسبب اضطرار معتبر شرعاً.
ومن الاضطرار المعتبر شرعاً اعتبار الأصلح الضروري.
ولكن الذي قد يضطر لإقرار العلمانيين على العلمانية هو الحاكم وليس الأحزاب والأفراد، وذلك لأن الاضطرار إلجاء.
فالاضطرار افتعال من الضرر، فهو إلجاء من ضرر أعظم إلى ضرر أخف، فمن شروطه التعين وتقدير الضرورة بقدرها [٢]. 
والكفر المحتمل هو المتردد بين الأكبر والأصغر.
ولا سبيل لتكفير الأعيان بالكفر المحتمل والشرك المحتمل وكبائر الذنوب إلا بعد تصريحهم باعتقادهم الباطل.
الذي لا يحتاج تكفير صاحبه إلى التصريح باعتقاده وإنما تكفي فيه إقامة الحجة هو الكفر الصريح والشرك الصريح، لأنه يستلزم الاعتقاد، مثل دعاء المخلوق. 
ومن أمثلة الشرك المحتمل لأصغر والأكبر؛ التبرك بآثار الصالحين والحلف بالمخلوق والتمائم.
ولا ينبغي الاستهانة بالكفر المحتمل فهو من أعظم علامات النفاق لأنه محتمل للكفر الأكبر، فهو بعد الكفر الصريح ممن يظن أنه وقع فيه لشبهة.
والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين خلافاً للزنادقة الذين تبيَّن نفاقهم.
والله تعالى إنما ذكر صفات المنافقين للحذر منهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣۰].
والمنافق والزنديق يلتقيان في إظهار الإسلام وإبطان الكفر، ويفترقان في نوع الكفر وطريقة ظهوره.
فالزنديق هو من تبين نفاقه للناس، وذلك بإتيان الكفر الصريح، وإذا أظهر توبة يُعلم بقرائن يقينية أنها مخادعة ليس فيها احتمال صدق، كمن يقول لا إله إلا الله وهو يعني أن كل شيء هو الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقد أطلق السلف كلمة الزنديق على صاحب النفاق البيِّن.
وأما المُنافق فإنه من لم يتبيَّن نفاقه للناس، لأنه يأتي غالباً بكفر مُحتمِل، وفي توبته من كفر صريح احتمال صدق.
والخطورة ليست فقط من الزنادقة والمنافقين، بل تشمل المسلمين الذين يرضونهم لمصالح دنيوية.
ولذا فإن الراجح في الجاسوس المسلم الذي يتجسس للكفار هو قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وهو أنه يُقتل، وأنه يجوز العفو عن أهل الهيئات كما حدث في قصة حاطب رضي الله عنه.
ولكن القول بأن معاونة الكفار على المسلمين من نواقض الإسلام يعتبر من زلات العلماء.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (وليس الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بين، فقلت للشافعي: أقلت هذا خبراً أم قياساً؟ قال قلته بما لا يسع مسلماً علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال بالكتاب، فقيل للشافعي: فاذكر السنة فيه، فذكر حديث حاطب رضي الله عنه)، المصدر والتفصيل في الرابط الذي في الهامش [٣].
والعلمانية كفر بيِّن.
ولكن في تكفير المعين ممن ينتسب للأحزاب العلمانية تفصيلات علمية شرعية لا يدركها كثير من طلبة العلم بله العوام، رغم أن الأمر قد يبدو واضحاً بسبب أن علاقة الدين بالدولة من الضرورات الدينية التي لا يجهلها مسلم، بل لا يكاد يجهلها كافر.
فقد يعمم بعض الحكم بسبب ظهور الحجة، لأن كل الناس يعرفون أن النبي ﷺ أقام دولة سار على نهجها خلفاؤه الراشدون.
فتكفير المعين بمفصل الإيمان كدعاء المخلوق والانتماء للأحزاب العلمانية خاص بالقضاء والعلماء.
وأما الحكم على من خرج من مجمل الإيمان فهو واضح، كالحكم بزندقة من يطعن في الدين ويدعي الإسلام.
وقد يفضل ألا يصرح العلماء بتكفير من ارتد بمفصل الإيمان لكيلا يُجرِّؤوا العامة على التكفير، لأن العامي قد يعمم الحكم على لا يجوز الحكم بتكفيرهم بأعيانهم.
فقد يعمم العامي الحكم على من لديه شبهة كشبهة ربا الأوراق النقدية، ومن يصوت للعلمانيين (يقرهم على العلمانية ولكنه لا يقر بها)، وكل من ينتمي لحزب علماني، ونحوهم ممن لا يجوز الحكم بتكفيرهم بأعيانهم.
والردة عن أصل الدين أغلط، ولكن الردة عن بعض شرائعه أخطر، كمانعي الزكاة الذين سماهم الصحابة رضي الله عنهم مرتدين.
فالعلمانية كفر بيِّن، وأما الفصل العملي للدين عن الدولة فهو كفر مُحتمل، فهو كالشرك المحتمل للأصغر والأكبر؛ كالحلف بمخلوق والتمائم والتبرك بآثار الصالحين.
وما سبق هو في الفصل الكلي للدين عن الدولة بما في ذلك أصل الدين؛ الشهادتان والصلاة [٤].
وأما الفصل الجزئي؛ فإن مخالفة الشرع بتقنين عام أعظم إثماً وإفساداً من مخالفته في وقائع.
ومع أن الفصل الجزئي أخف من الفصل الكلي للدين عن الدولة إلا أن تقنين ما يخالف أحكام الشريعة الظاهرة المتواترة المعلومة بالضرورة هو أيضاً كفر مُحتمل  [٥].
وبما أن الكفر المحتمل متردد بين الأصغر والأكبر، فأقل أحواله أنه كفر أصغر، والكفر الأصغر أكبر من جميع الكبائر كالشرك الأصغر أو في أعظم دركات الكبائر [٦].
ومما يدل على ذلك؛ إطلاق كلمة كفر بدون الألف واللام على الكبائر العظيمة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)؛ فيه تفريق بين ما أطلق عليه كفر وما أطلق عليه فسق، وفي ذلك دلالة على أن كلمة كفر تطلق على ما هو أعظم إثماً مما يطلق عليه فسق.
وكما أن الكفر الأكبر دركات متفاوتة، فكذلك الكفر الأصغر، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}.
والأحكام الاستثنائية يقررها الحاكم المسلم وليس الأفراد ولا الأحزاب والجماعات، وواجب الأفراد والمنظمات نصح الحاكم ولو بشيء من الشدة والضغط.
فإذا لم يستطع الحاكم المسلم تحكيم الشريعة فهو معذور، ولكن على الناس معاونته ليتمكن من تحكيمها لا معاونة العلمانيين عليه بإقرارهم على علمنة البلد.
ولا عذر للحاكم المسلم إذا ترك تحكيم الشريعة لمجرد حب السلطة والبقاء فيها ونحو ذلك من حظوظ النفس، ولكن عدم عذره لا يقتضي تكفيره.
قال ابن تيمية عن النجاشي رحمهما الله تعالى: (ونحن نعلم قطعاً أنَّه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، واللهُ قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل اللهُ إليه، وحذَّره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل اللهُ إليه)، وقال أيضاً: (والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإنَّ قومه لا يقرُّونه على ذلك) [٧].
عمر عبداللطيف محمد نور
لوند، السويد
الأحد ٧ جمادى الأول ١٤٤٤هـ، ١٢ ديسمبر ٢٠٢٢م.

مصادر وملاحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق