دعاوى حول أرض كوش

المحتويات

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ألا يرى ناقلو الدعاوى الكوشية أن الخرطوم في كلام القرطبي هي الأنف التي تشبه خرطوم الفيل؟ وأن كلمة السودان تعنى السود عند علماء العرب ومؤرخيهم السابقين؟
من المؤسف أن يتحدث مبدعون في تخصصاتهم فيما ليس لهم به علم.
والتوسع لا يضاد التخصص، وذلك بدراسة أساسيات بعض العلوم الأخرى مع اتباع أسس البحث العلمي [١].
سمعت في شهر نوفمبر الماضي مقطعاً متداولاً عن الكوشيين، زعم فيه صاحبه أن القرطبي قال: أول جيش يقضي على إسرائيل هو جيش الخرطوم!
وقد بحثت في المكتبة الشاملة في موقع تراث باستخدام كلمة "جيش الخرطوم" واختيار المؤلف؛ القرطبي، فلم أجد شيئاً.
ولكن أرسل لي أحد الإخوة كلاماً للقرطبي في خبر المهدي نصه هو؛ (فيأتون إليه من كل مكان ويجيبونه ويقفون عند أمره ويكون على مقدمته صاحب الخرطوم وهو صاحب الناقة الغراء) [٢].
واضح أن الكلام هنا عن شخص، ولعل المقصود بصاحب الخرطوم هنا صاحب الأنف الطويلة التي تشبه خرطوم الفيل.
وكيف عرف القرطبي أن بني إسرائيل سيسمون دولتهم إسرائيل؟!
الآثار التاريخية مع أوصاف أرض كوش المذكورة في مقدسات بني إسرائيل تدل على أنها في السودان الحالي.
ولكن الإسرائيليات مشكوك فيها، وإذا افترضنا رجحانها، فما الذي يمنع أن يكون ما ورد خبراً عن أمرٍ حدث قبل الإسلام؟
بل هذا ما قد يتعين لتغير التركيبة السكانية لأرض كوش من ناحية الدين والنسب والرحم.
فلا ينبغي الترويج لعقائد اليهود إلا بغرض التنبيه على خططهم ضد السودان.
ما سبق ذكرني كلام رجل ادعى أنه يعيش في سويسرا وأنه سمع عالم الآثار السويسري شارلس بونيه يقول بأن حضارة كرمة (أول الممالك الكوشية) أقدم من الحضارة المصرية!
وبالبحث خلصت إلى احتمال عدم فهم صاحب الدعوى كلام عالم الآثار السويسري لضعف لغة ونحوه، وذلك بعد ترجمة كلام لعالم الآثار من مواقع سويسرية وقراءة كلام له في مواقع إنجليزية والرجوع إلى موقع وزارة السياحة والآثار السودانية.
فلم يثبت حتى اليوم أن حضارة كرمة أقدم من الحضارة المصرية خلافاً لما هو شائع في السودان.
فالدراسات الحديثة ترجع الحضارة الكوشية إلى حوالي ٢٥٠٠ سنة قبل الميلاد (٤٥٠٠ سنة)، وترجع الحضارة المصرية إلى حوالي ٣١٠٠ سنة قبل الميلاد (٥١٠٠ سنة).
ثم جاءني الخبر اليقين بعد كتابة ما سبق، فقد سمعت شهادة عالم تاريخ سوداني يؤكد فيها ما ذكرته من كذب الشائعة المنسوبة إلى عالم الآثار السويسري شارلس بونيه في هذا المقال.
فقد سمعت عالم التاريخ البروف عمر حاج الزاكي يقول؛ (شارلس بونيه، أقسم بأني التقيته في لندن، في مؤتمر الدراسات المروية أو النوبية، وجلست معه ومعي آخر، فقلت له؛ يا شارلس، يروج عنك كلاماً أتعبنا مع طلابنا، هل أنت تقول أن كرمة أقدم حضارة وأقدم من الحضارة المصرية؟ فرد علي بعبارة واحدة، قال لي: أنت تعرف أن الصحفيين يضخمون).
وواصل البروف حديثه قائلاً: (شارلس بونيه لم يقل إطلاقاً بأن حضارة كرمة قبل حضارة مصر ولا هي أقدم حضارة، فقط يقال أنها أقدم مملكة سودانية متوسعة، إذا استثنينا تاسيتي في السودان، وكان لها شأن نقول عنه عالمي بمقياس زمانها، بتدخلها مع الهكسوس، وهذا الذي تسبب في نهايتها).
وواصل قائلاً: (وأنا دائماً للحذر أقول هذا آخر ما عندنا، وأن هذا لا يمنع أن يثبت مستقبلاً أن تكون كرمة هي أقدم مدينة، ولكن علم الآثار لم يثبت هذا حتى الآن).
كنت أتساءل عن صحة نسبة القول بأن أصل البشرية يرجع للسودان الحالي إلى مركز البيانات الضخم لجامعة أكسفورد.
فأمدني أخ برابط لمقطع مرئي في اليوتوب، وجدت في التعليق عليه رابطاً لمقال منشور في المركز فيه رابط لورقة علمية ورد فيها؛ (في الواقع، يقع مركز الثقل الجغرافي المستنبط لأقدم ١٠٠ نمط وراثي فردي من الأسلاف (التي يبلغ متوسط عمرها ∼٢ مليون سنة) في السودان عند ١٩.٤° ش، ٣٣.٧° ق) [٣].
نص الكلام باللغة الإنجليزية؛ ( In fact, the inferred geographic center of gravity of the 100 oldest ancestral haplotypes (which have an average age of ∼2 million years) is located in Sudan at 19.4°N, 33.7°E )، انتهى [٣].
وهذا غير مستبعد، فكلمة آدم في العربية تعني شديد السمرة، وآدم هو أبو البشرية الأول.
وقد تؤكد هذه الدراسة أن تاريخ البشرية يعود إلى ملايين السنين، وهو ما قد يستنبط من نصوص شرعية ومعارف بشرية [٤].
ولا علاقة لهذه الدراسة بالقول بأن أصل البشرية غير بشري، وذلك لأنها خاصة بصنف الإنسان العاقل مما يسمى بالنصف البشراني، والصنف الآخر من الصنف البشراني يسمونه الإنسان البدائي.
فمن بين آلاف جينومات البشرية الحالية، شملت الدراسة أربعة جينومات متسلسلة عالية التغطية لسلالات منقرضة مصنفة ضمن أنواع الإنسان العاقل، وهي نسبة لا تؤثر في النتيجة.
فقد شملت الدراسة ثلاثة جينومات للإنسان النياندرتالي، وجينوم واحد لإنسان الدينيسوفان.
وما يذكرونه من فروق لهذين الجنسين المنقرضين لا يعدو الفروق بين أجناس البشر المعاصرين، فهي فروق يسيرة في طول القامة، وشكل الرأس، والحاجبين، والقوة، والحرف والصناعات.
والتطوريون يضعون احتمال تغير وراثي باندماج كروموسومين [٥].
وعلم الجينات يثبت الملاءمة التي قد تكون تطوراً أو تخلفاً، ولا يثبت التطور بالطريقة التي يزعمونها.
فملاءمة البيئة قد تستلزم الرجوع لقديم، وما ثبت علمياً هو أن جينات الكائنات الحية تتغير لتناسب البيئة، والأنفع للبيئة المعينة لا يعد تطوراً في كل حال.
ولا شك أن لهذا التغير حدود لأنه مرتبط بالبيئة وتغيرها، فتغيره محدود بتغير البيئة في أقل حدوده.
الدعاوى حول أرض كوش ينقلها حطاب ليل من كتب علماء المسلمين دون تفريق بين الإسرائيليات الراجحة والمشكوك فيها والأحاديث الصحيحة والضعيفة.
والبحث العلمي ليس بكثرة النقل، فمثلاً؛ بعض من ينقلون من تاريخ الطبري لا يراعون أنه يعد جمعاً للمعلومات التاريخية بما فيها الضعيفة تسهيلاً للباحثين.
والمتفق عليه في الإسرائيليات (التي ليس في شرعنا ما يصدقها ولا ما يكذبها) هو أنها مشكوك فيها في الأصل، فلا تصدق ولا تكذب حتى يترجح أحد الأمرين.
ولعل سبب جواز التحديث بها هو أن بعضها قد يترجح بالبحوث والآثار، فالشك (تساوي الاحتمالين) مطروح.
وفي الحديث الصحيح؛ (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) [٦].
ولعل إفساد بني إسرائيل الحالي هو الأول، خلافاً لما سلم به الرجل، وذلك لدلالات النصوص، وليس في هذا القول مخالفة للإجماع [٧].
وفي اليهود خرافات وسحر وكهانة وتقديس لما لم يقدسه الله من آثار الأنبياء، فقد قيل بأنهم يقدسون مقرن النيلين وجزيرة توتي.
ولا يبعد أن يكون مقرن النيلين هو مجمع البحرين، فقد ورد عن بعض المفسرين أنه بإفريقية، ولقربه من  مصر، ولأنه اسم مكان من الجمع، فلو كان مصب النيل لقيل ملتقى البحرين من اللقاء.
ولكن بعض الناس لا يتقيدون بضوابط علمية.
فقد قال لي أحد كبار مروجي الدعاوى حول أرض كوش في مكالمة هاتفية؛ لدي كتاب فيه اجتهاد في التفسير.
وتخصص محدثي بعيد عن التاريخ والعلوم الشرعية!
فقال لي؛ ماذا تقولون أنتم علماء الدين في جمع البطن في مثل قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾؟ فقلت له: هات ما عندك؟
فقال لي في الآية إعجاز علمي، فالجمع هنا بسبب الإمعاء الدقيقة والغليظة والمعدة، إذ كيف علم النبي ﷺ بهذا ولم تكن لديه أجهزة تصوير حديثة؟!
فقلت له؛ يرى في الحروب وغيرها إذا بُقرت بطن أو ذبحت بقرة!
اتفق رواة الإسرائيليات على أن إدريس قبل نوح عليهما السلام، فقد ذكروا أنه هو أخنوخ بن بدد بن مهلايل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
ونقل بعض العلماء من الإسرائيليات أن إدريس عليه السلام هو أول من خط بالقلم وخاط الثياب ونظر في علم النجوم والحساب وسيرها وعرف الطب ودرس الكتب واتخذ السلاح والسيف.
وإقرار هؤلاء العلماء تلك الإسرائيليات قد تكون له أسبابه، ولا يلزم موافقتهم عليها.
واتفاق الناس على عدد أيام الأسبوع وعدد شهور السنة (عدا إثيوبيا تقريباً) قد يدل على أنها من بقايا تعاليم الرسل في الناس، قال ما قد يشير إليه ابن تيمية رحمه الله.
منها قوله بأن كل الأمم كانت تعمل بالتقويم القمري للأشهر.
وقد يدل عليه أن اسم الشهر وكل الأشهر في اللغة الفنلندية مشتق من القمر.
ولعل الصحيح أن كل الأمم كانت تعمل بالتقويم القمري في كل شيء عدا الزراعة ونحوها مما له صلة بالمناخ [٨].
ولا يصح زعم بعضٍ بأن ما نقله بعض العلماء من إسرائيليات في أن إدريس عليه السلام أول من أسس لحرف ومعارف بشرية حديث نبوي، فقد وجدت التالي بالبحث؛
(أول الرسل آدم، وآخرهم محمدٌ، وأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول من خط بالقلم إدريس)، ضعيف جداً [٩].
ولا يبعد صحة القول بأن إدريس عليه السلام هو أخنوخ الوارد في الإسرائيليات، وأنه من يسميه اليونان هرمس، فللعلماء أسباب للترجيح.
ولكن مثل هذا الرجحان قد يكون أقرب إلى الشك منه إلى اليقين، فلا يعول عليه كثيراً.
ولا يبعد أن يكون هرمس من السودان الحالي إذا صح أن المؤرخ اليوناني استرابوا قد قال بأن موطن هرمس عند منحنى النهر، وأن النهر في الأرض هو ذات النهر في السماء، وأنه رسم إنحناء النيل كما هو عليه اليوم.
فقد قال النبي ﷺ: (سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة) [١٠].
ولكنها مجرد فرضيات تنقل على أنها محل نظر ودراسة.
ولا يبعد كذلك أن يكون بعض العلماء قد نقل بأن إدريس عليه السلام من السودان (السود)، فآدم عليه السلام هو أبو البشرية، وكلمة آدم تعني في العربية شديد السمرة.
والعرب تقول السودان للسود والبيضان للبيض، فإذا أرادوا بلداً قالوا بلد السودان.
قال ابن منظور رحمه الله تعالى: (والبيضان من الناس: خلاف السودان) [١١].
وقيل بأن أول من سمى السودان الحالي باسمه هذا هو محمد علي باشا [١٢].
وعودة للمتحدث الأول؛ فقد ادعى أنه درس التوراة، وهو ينسب سفر أيوب إلى التوارة!
وأسفار التوراة الخمسة هي؛ التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية.
ومن قال عن بقية الأسفار أنها ملحقة بالتوراة إنما قصد أنها أضيفت إليها في كتاب واحد، لا أنها جزء منها.
انظر الكلام التالي، ورابط البحث من موقع الدرر السنية، وهو موقع مميز وموثوق والملاحظات عليه لا تنفي عنه التجرد العلمي؛
(أما الكتب الملحقة بالتوراة فهي: أربعة وثلاثون سفراً، حسب النسخة البروتستانتية، فيكون مجموعها مع التوراة تسعة وثلاثين سفراً، وهي التي تسمى العهد القديم لدى النصارى، ويمكن تقسيمها إلى خمسة أقسام) [١٣].
وهذا الكتاب الواحد يسمى البايبل عند النصارى، والتوراة جزء مما يسمى بالعهد القديم من البايبل.
والعهد القديم يشمل كتابات الرسل والأنبياء والقديسين من موسى عليه السلام إلى عهد عيسى عليه السلام.
وأكثر العهد القديم مطابق لتناخ اليهود، لأن شريعة عيسى عليه السلام لم تنسخ أكثر شريعة موسى عليه السلام.
والتوراة هي الكتاب المنزل على موسى عليه السلام.
ويحمل تعميم البخاري رحمه الله القول بأن كلام الله تعالى لا يبدل على النسخ الأصلية كالتوراة التي نزلت بلغة موسى عليه السلام، وهي مفقودة.
فلا شك في تحريف النسخ المترجمة الحالية.
حضارة كوش للعبرة لا للتغني والفخر، ولنتأمل في موقعنا الحضاري اليوم، والحضارة والعمران لا يدلان على الهداية.
هذه دعوة عامة للتأمل، وأخص بها من يعتني بتوثيق تاريخنا بالعلم لا بالدعاوى.
العلوم البشرية التي وصلتنا مدونة ترجع لليونان، وبعضهم كانوا وثنيين يعبدون النجوم والأفلاك، وبعضهم كانوا ملاحدة.
ومؤكد أن حضارات كثيرة سبقت اليونان في هذه العلوم البشرية، ولكن علومهم لم تصلنا مدونة، ولم نعرف أن لهم علوماً بشرية إلا من خلال الآثار.
واستفاد المسلمون من ترجمة كتب اليونان وطوروا هذه العلوم البشرية بصورة كبيرة جداً.
واستفاد الغرب من تطوير المسلمين لهذه العلوم البشرية، ولكنه يجحد.
ومؤكد أن الغرب طور العلوم البشرية التي ورثها من المسلمين تطويراً عظيماً.
فهذا أمر مشاهد، فما هو موقعنا الحضاري اليوم بين الأمم؟
وكل حضارات البشر استفادت من الرسل.
ذكر ابن تيمية رحمه الله أن كثيراً مما عند اليونان موروث من تعاليم الرسل.
وذكر بعض الرومان المعاصرين (الأوربيين) أنهم استفادوا من النصرانية والإسلام.
وقد حكى الله تعالى في القرآن عن أمم متحضرة وكان لها عمران وآثار ومع ذلك وصفها بالضلال.
ونسب الله تعالى فضل حضارتهم وعمرانهم إلى نفسه بتسميتها آلاء الله يعنى نعمه.
فهو سبحانه خالق المواد وطبيعتها والأسماع والأبصار والعقول التي درست تلك الطبيعة.
قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: ٧٤].
وقال: ﴿أَتَبۡنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةٗ تَعۡبَثُونَ ۝ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ ۝ وَإِذَا بَطَشۡتُم بَطَشۡتُمۡ جَبَّارِينَ۝﴾[الشعراء: ١٢۸ - ١٣۰].
وقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم: ۹].
وقال: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٥۸].
وقال ﴿إِرَمَ ذَاتِ ٱلۡعِمَادِ ۝ ٱلَّتِي لَمۡ يُخۡلَقۡ مِثۡلُهَا فِي ٱلۡبِلَٰدِ ۝ وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخۡرَ بِٱلۡوَادِ ۝ وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ ۝ ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ ۝ فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ ۝ فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ ۝﴾[الفجر: ٧ - ١٣].
فالحضارة لا تدل بذاتها على الهداية والتوفيق.
ومنشأ ضلال فلاسفة اليونان ظنهم أنهم يستطيعون فهم حقائق الطبيعة فهماً مطلقاً دون نسبتها إلى بعضها.
قال شيخ الإسلام ابن  تيمية رحمه الله عن اصحاب العدد من فلاسفة اليونان: (فأصحاب فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم) [١٤].
ومحاولة الفهم المطلق هي منشأ ضلال فلاسفة وملاحدة اليوم، مع اختلاف الأمثلة، انظر؛ "نسبية المفاهيم الفيزيائية الأساسية" في الرابط [١٥].
ومثال اختلاف الأمثلة مع اتحاد الفهم أن ملاحدة اليوم يستدلون على إنكار السببية بنحو التشابك الكمي في الفيزياء الكمومية.
ولن ينتفع بشر بحضارة وعمران وعلوم بشرية ما لم يستفيدوا منها في عبادة خالقهم ويستغلوها في دنياهم وفق شرع الله ودينه.
والانتماء للشعب والقبيلة يصبح عصبية إذا كان على وجه الفخر المذموم.
فالشعب نسب، وقد نهينا عن الفخر بأنسابنا على وجه احتقار الآخرين.
والافتخار المذموم بالنسب للآباء أعظم إذا كانوا وقوداً للنار بسبب أنهم مشركون وكفار (فحم من فحم جهنم).
قال رسول الله ﷺ: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) [١٦].
واليهود يفتخرون بنسبهم الإسرائيلي والسامي.
ولم يثبت تفضيل الساميين بنصوص الكتاب والسنة، بل لم يثبت بالنصوص أن أبناء نوح عليه السلام هم سام ويافث وحام، فالأحاديث فيهم ضعيفة، وما نقل عن السلف فيهم كابن عباس رضي الله عنهما هو من باب التحديث بالإسرائيليات [١٧].
ولو فرضنا صحة تفضيل الساميين، فالغالب أن أخوالهم جميعاً حاميون أو يافثيون.
والسبب هو استبعاد أن يتزوج الأخ أخته، فحتى ولو افترضنا أن لسام عدداً من الزوجات، فأولاده منهن إخوة لأب.
وإذا افترضنا جواز زواج الإخوة لأب في شريعة نوح عليه السلام ومن بعده، فما هو دليل بقاء تفضيل الجنس السامي إلى يوم القيامة؟
وقد كان اختيار بني إسرائيل بعلم الله وحكمته؛ ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
ثم نزع الله تعالى الخيرية من بني إسرائيل بعدله، فليس بين الله تعالى وبين خلقه نسب.
قال الله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.
المراد بالإسرائيليات القصص التي نقلها أهل الكتابين اليهود والنصارى في كتبهم المقدسة وغير المقدسة.
قد يكون كُتّاب ما ورد في كتبهم المقدسة وغير المقدسة ممن شاهد الحدث مع استحالة أو رجحان الكذب في مثله، وقد يكون الحدث مما نقل بتواتر أو استفاضة، وقد تدل على صدقه دلائل أخرى.
وفي غالب الاستعمال يراد بالإسرائيليات ما لم يرد في شرعنا ما يصدقها ولا ما يكذبها من روايات بني إسرائيل.
وفي الحديث في صحيح البخاري؛ (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) [٣].
وبما أنها لا تصدق ولا تكذب، فهي مشكوك فيها (تساوي الاحتمالين).
والمشكوك فيه لا يعتمد عليه بمفرده.
فجواز التحديث بالإسرائيليات هو بسبب أنها قد تثبت بالبحوث والدراسات.
والحديث عام في روايات بني إسرائيل، فلا يخصص بما ورد في كتبهم المقدسة، وواضح أن الحكمة مجرد حفظ المعلومات بسبب أن منها ما قد يثبت.
وذلك لأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فمجموع النصوص يدل على مقصد جواز التحديث بالإسرائيليات.
وأكثر نقولات علماء المسلمين للإسرائيليات هي بغرض إخضاعها للبحث والدراسة أو بغرض جمع المعلومات وحفظها تسهيلاً للباحثين.
والبحث العلمي ليس بكثرة النقل، فمثلاً؛ بعض من ينقلون من كتاب "تاريخ الأمم والملوك للطبري" لا يراعون أنه يعد جمعاً للمعلومات التاريخية بما فيها الضعيفة.
وبعض علماء المسلمين قد يرجح إسرائيليات بسبب قد لا يوصلها إلى درجة القبول العلمي، ويبدو أن هذا هو قصدهم ببعض ترجيحاتهم (ترجيح غير قوي).
فالمنهجية العلمية الصحيحة حول الإسرائيليات هي تنقيحها وتصفيتها بدراسة متكاملة تشمل علم الآثار والمصادر التاريخية الأخرى والدلالات الظنية لنصوص القرآن والسنة.
وتلخصياً لما سبق؛ يلزم حول الإسرائيليات التالي؛
١. إخضاعها للبحث العلمي بطرقه المعتادة عند المختصين بمختلف تخصصاتهم.
٢. علماء المسلمين ينقلون الإسرائيليات لحفظها وترجيح بعضها بالعلم، وما رجحه بعضهم غير ملزم لغيرهم من العلماء والباحثين.
والله تعالى أعلم.
عمر عبداللطيف محمدنور عبدالله
لوند، السويد
الأحد ٢٢ محرم ١٤٤٦هـ، ٢٨ يوليو ٢٠٢٤م
[١] التوسع لا يضاد التخصص؛ رابط المدونة، رابط التلغرام.
[٢] التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ج١/ص١٢١٤).
[٣] مجلة العلوم » علم الأنساب الموحد للجينومات الحديثة والقديمة.
[٤] عمر البشرية.
[٥] كروموسوم٢ زعمٌ لا تطور.
[٦] صحيح البخاري (٣٤٦١).
[٧] إفسادا بني إسرائيل.
[٨] العمل بالأهلة في كل شيء عدا ما له صلة بالمناخ.
[٩] ضعيف الجامع (٢١٢٧) » الباحث الحديثي.
[١٠] صحيح مسلم (٢٨٣٩).
[١١] لسان العرب (ج٧/‏ص١٢٣).
[١٢] نقله أبو كنانة عن بعض المؤرخين.
[١٣]] موقع الدرر السنية » موسوعة الأديان » الباب الثاني » اليهودية وما تفرع عنها » الفصل الرابع » كتبهم » المبحث الأول: التوراة والكتب الملحقة بها.
[١٤] منهاج السنة النبوية (ج٥/ص٤٥٦).
[١٥] نسبية المفاهيم الفيزيائية الأساسية.
[١٦] حسن صحيح، الألباني، صحيح الترغيب (٢٩٢٢)، أخرجه الترمذي (٣٩٥٥).
[١٧] الكوشيون أخوال عُربنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق